حُب

يندُر أن تشتعل في قلب رجلٍ منطقيّ التفكير العاطفة. ولمّا تُدرك أن هذا الرجل يعيش في نجد، ذات الطابع الصحراوي الجاف، وتربّى على العادات الرجوليّة الطاغية، وترعرع بين رجالٍ أشدّاءٍ يعرفون عن القسوة والجفاف أكثر بكثير مما يمارسون الرفق واللين، ونشأ في مجتمعٍ يقمع الحُب وينتصر للعلاقة منزوعة المشاعر؛ تُصاب بالذهول مما آل أمر صاحبنا إليه. كيف برجلٍ في مثل هذه الظروف أن يعرف الحُب بدايةً فضلا عن أن يقع في شباكه، وأن يلجأ إليه و أن ينتهيَ به المطاف مُحبِّا ومحبوبًا..

استقام لصاحبنا هذا اللسان، فكان إذا تحدّث راق للآخر حديثه، وودّ لو أنه أطنب وتوسّع في إيراد التفاصيل. كثُر حوله الأصحاب وفتح لهم من الصداقة باب، واتسع لهم صدره وطال بهم شِبره. ولأن صاحبنا يجيد الحديث ويتفنن فيه وهو في هذا الباب طويل الباع وفتّان، كان ولا بد أن تحبه النساء ويفتنّ به، لأن النساء جُبلن على حب الحديث وترديده، وتميل قلوبهن لمن كثر من الكلام والمنادمةِ رصيده. فانتهك بعذب الكلام الأسرار ودخل القلوب وسرق الأعمار، وصار هذا ديدنه عمرًا من الزمان لا يبغي من هذه العلاقات إلا المتعة السريعة يعقبها الفرار والقطيعة. ثم إن الله اختص صاحبنا برحمته، فتاب عن الذنب وأناب وتزوج وأنجب ومضى يمشي في الحياة بلا قلب ولا عاطفة. ولما تذكّر الماضي الجميل واستدرك، ساءه أن هذا القلب التائِب لم يعد محلا للدفء والحنان الجاذب. ومما ضاعف في قلبه الحسرة أن زوجته من أجمل النساء وجهًا وأطيبهُن رائحة وأحلاهن عِشرة، فما رآها يومًا إلا وتذكّر الحديث الشريف “خير متاع الدنيا الزوجة الصالحة“، فهي حقيقةً إذا رآها سرّته وإن غاب عنها حفظته، وأنها تستحق الحب وتطمع به وتتمناه من زوجها الذي لا ترى في هذا العالم أحق بقلبها وعطفها وحنانها منهُ. وهو يعلم ما يكنّ قلبها له من مودّة وعاطفة، ويبشّرها بالحب متحدثًا إليها به ومعبّرا لها عنه، وذاكرًا محاسنها ومكرمًا إياه بوقته وعقله وماله، وهي في شك من هذا كله. لا تحس بصدق عاطفته حتى وإن أمطرها بالرسائل وملأ أذنيها بجميل الكلمات. وليس في هذا العالم أصدق من حدس المرأة تجاه من تُحب. وقد أفضت إليه بهذا القلق المساور، فـ كبُر على نفسه حنقه ويبس من حديثها رمقه، وراح يدافع عن نفسه ويناور، وهي تمنّي النفس بتصديقه ولم تجد لذلك في قلبها من سبيل أو طريقه.

العاطفة تُوهب من الوهّاب وليس إلى إيجادها من العدم طرق وأسباب، فكم رثى المغرمون علاقات جميلة ومتهيئة لم يجدوا لها في قلوبهم منزلة. حتى وإن استعانوا على ذلك بالخيال والمجاملة، فما هي إلا أيام وتشرق شمس الحقيقة الساطعة وينجلي سراب الأماني الكاذبة، وما ذلك إلا لأن الحب رزق لا يحصّله الإنسان بجدّه وسعيه بقدر ما هو مقدورٌ له ومكتوبٌ عليه قبل أن تُخلق السماوات والأرض. فما الذي قد يغيّر القضاء المكتوب والرزق الموهوب؟

من هذه الحقيقة الثابتة ابتدأ صاحبنا رحلته مع الدعاء وتكراره لأن الدعاء كما جاء في الأثر يردّ القضاء ويدفع الشر ويجلب الخير. ومرقت الأيام مروق السهمِ وانقضت السنون انقضاء اللحظات الجميلة، ولا يزال صاحبنا يعيش كما تعيش الأنعام، لا يجد في صدره عاطفةً تتأجج وربما شاهد الحب من حوله ينمو ويتزايد وسمعه في الرسائل والقصائد ولمسه على المخدات والوسائد، وهو يقف منه مكتوف الأيدي متفرِّج. كأن قلبه قد سُلب العاطفة سلبًا، وكأن روحه عجزت وشاخت وابيضّت لحيتها، وكأن الجسم القويّ هذا لا نبض فيه يتردد ولا عاطفةَ فيه تتجدد، وكأنه قد عُوقب على ما بذله فيما مضى من مشاعر زائفة بأن حرم من المشاعر الحقيقيّة والعاطفة. فرضي بالقدر الذي قدّر له وأمسى في ضيق يعقبه رضى كلما تذكر قول المصطفى “ومن رضيَ فله الرضى ومن سخط فله السخط“..

**

أما الآن وقد راودته التي هو في قلبها عن نفسه، فقد تبدّل الحال وتصاغرت في نفسه هموم كانت كالجبال، وانهزم في هذه المعركة عقله واستلم الراية نيابةً عنه قلبه، ووقفت الشرايين موقفًا داعما، وضخّت الدماء فاحمّرت الوجنات وعرِقت قبل اللقاء الجبهات وسُمعت للقلب دقّات من بعيد وترجمت نظرات العيون لحنًا جديد. أُسدل الستار على الخشونة والجفاف وراح يتخيّل كل واحد منهما الآخر بـ أثياب الزفاف. وماهي إلا أيام حتى زُفّت إليه واجتمعت بين يديه ونزلت منه منزل القلب من الجسم، لا معنى لأحدهما دون الآخر.

فما الذي تبدّل حتى يُحِب صاحبنا ويُحَب؟

مازال يدعو الله أن يفتّق قلبه تفتيقًا وأن يُخرج منه الحياة كما يخرج الحيّ من الميّت. واستمر يلهج لسانه بالدعاءِ والتوبةِ ويعالج نفسه بالنظر في كل علاقة بين حيّ وحي، حتى جاء على جُل العلاقات ليخلص منها إلى السر، سر الحب وخلطته السريّة. ومن لطيف الله بعباده أن يسوقهم إلى ما ينفعهم من حيث لا يعلمون، حتى وإن لم يتنبّهوا لهذا اللطف ويأدوا حقه من الإمتنان والشُكر، إلا أنه أكثر من أن يُحصر أو يُشار إليه.

فبينما صاحبنا يمرر أصبعه فوق شاشة هاتفهِ الذكي، يقلب الصفحات ويتنقل بين الصور والمقاطع والتطبيقات حتى وقعت عينه على اقتباسٍ لـ جبران خليل جبران، يقول فيه: الصلاة والحب، كلاهما باطل بدون طهارة. فتعجّب من وقع هذه الكلمات عليه ووصفها لما كان عليه وما انتهى حاله إليه. إن هذا الحب الذي يمر بهدوء بين قلبه ورئتيه وينتشر في شرايينه ويحرّك جوارحه ويهذّب لسانه ويجمّل الأشياء في عينه ويعمق معنى الحياة ويثري تجربتها؛ هذا الحب لا يتمكّن من القلب حتى يطهُر القلب.. تمامًا كالصلاة التي لا تُقبل ولا يُرى أثرها بدون طهارةٍ تسبقها.. طهارةٍ بدنية وقلبيّة..

والحب مقرّه القلب، فلزِم أن يطهُر المحلّ ويُؤهل لاستقبال نور الحب والتقلّب في نعيمه. والحب سلعةٌ قلبية ثمينة وأدل الأدلّة على عظِم الحب وغلاء ثمنه أن لا يتم إيمان المرء إلا بـه “أن تحبّ لأخيك ما تحب لنفسك”، وهو الذي به تعلو منزلة الرجل يوم القيامة “أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما”. وقد أحب رسولنا من الدنيا أشياء “الطيب والنساء والصلاة”.. وقال عن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها “إني رُزقت حبّها”.. وقد جاء عن الصحابة الكرام قولهم لـ فئةٍ من الصالحين ممن لم يروا النبي صل الله عليه وسلّم “أن يا فلان لو رآك الرسول لأحبّك”، أي أن نبيّنا عليه صلوات ربي وسلامه كان يحب صفاتًا في الرجل ويحدّث بها، وأنه إذا أحب امرءًا ذكر ذلك له.

ولأنه أفضل البشر وقله أطهر القلوب، نما الحب فيه وتكاثر حتى أن كل من جالسه وحادثه ظن أنه أحبُّ الناس إليه. جاء عن عمرو بن العاص “أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعَثَهُ علَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فأتَيْتُهُ فَقُلتُ: أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: أبُوهَا، قُلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَعَدَّ رِجَالًا.” وهكذا كل من جاء بعده، يُعطي من الحب بقدر مافي قلبه من طُهر ونقاء.

فلما علِم صاحبنا هذا الأمر وعالج قلبه وحرِص على صفائه ونقائه، صار يجد للحب أسباب غير تلك التي كان يظنّها أسبابا للحب، وصار يجد في قلبه وطنًا للعاطفة لا يبرح يكبر ويتمدد. ونظنّه اليوم عاشقًا ولا أظنه إلا سيكون متيّمًا عما قريب.

ونختم بما جاء عند ابن تيمية في كتاب العبوديّة عن درجاتِ الحب الخمسة:

“وأول الحب العِلاقة لتعلّق القلب بالمحبوب، ثم الصّبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق. وآخرها التتيم، فالمتيّم هو المعبّد لمحبوبه.”

اللهم ارزقنا حُبّك وحُب من يحبّك وحُب كل عملٍ يقرّبنا إلى حُبك….

2 Replies to “حُب”

اترك رداً على مدونة إلغاء الرد