وأذّن بالنّاس

الحديث عن الحج متّصل وعريض، ولا أظن القارئ بحاجةٍ لمزيدٍ من التفصيل حول أهمية الحج وفضائله الكثيرة. ولكن الذي دعاني للكتابة عن هذا الأمر هو تجربتي الشخصية ونظرتي المتواضعة لما شاهدت وعايشت خلال الأيام الماضية في رحلةٍ نسأل الله لها القبول وأن يُوفق صاحبها لـ الحج المبرور والسعي المشكور والذنب المغفور، ومن يقرأ.

كنت جالسا أتناول وجبة العشاء في ممر ضيق وكان على الجدار المقابل لوحةٌ كُتِب فيها هذه العبارة:

“قال الحسن البصري: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدًا في الدنيا، وراغبًا في الآخرة”. وتساءل صاحبي الذي يجلس بجانبي، هل سيكون حجّنا مبرورًا بالنظر لهذه المقولة؟ قلت: الله أعلم وأكرم.

ابتدأت الرحلة في اليوم السابع من ذي الحجة، حيث نقلتنا الحافلة من جدة إلى مكة قبيل المغرب. وصلنا الحرم وطفنا وسعينا للقدوم، ثم حلقنا الرؤوس وعدنا إلى الحافلة. استغرقت رحلة الطواف والسعي والذهاب والعودة إلى الحافلة قرابة الـ ثلاث ساعات. ومما آلم المعتمرين في ذلك الوقت، إضراب سائقي الحافلات الترددية بين الحرم والمنطقة التي تقف فيها الحافلات القادمة من بعيد. مما اضطرنا للمشي داخل نفق طويل وآذننا بـ حج لن يكون سهلًا من البداية.

في طواف القدوم، يمد الحاج يديه بكل ما أوتي من قوة، يكون متلهّفا لهذه التجربة وهذا اللقاء مع رب الأرباب. تحقيق الركن الأخير من أركان الإسلام له وقعه في القلب وله وحماسته الخاصة. الحمدلله انتهينا من اليوم الأول بأقل الأضرار.

وفي اليوم الثامن “يوم التروية”، كان يومًا لطيفًا وخفيفًا يشبه اسمه. ارتوينا وأكلنا وتحللنا من الإحرام ثم لبسناه مرةً أخرى محرمين بالحج هذه المرة. وبقينا هكذا مستلقين على الأسرة نقرأ القرآن ونصلي الصلاة ونتحدث عن يوم عرفة ونتمنى الخير والتسهيل والقبول. كثيرًا ما ردد الحجاج أدعية التسهيل والتيسير، وهي أدعية تنبئ عن همومٍ لا تزال تكبر حين يرى الحاج الجموع الغفيرة والتي تتشارك معه الأهداف وتسعى بكل جدّيةٍ أن تنهي أركان وواجبات الحج في توقيتها. لدينا تقريبا أعمال خاصة بـ كل يومٍ من أيام الحج. بعض الأيام تتزاحم فيها الأعمال، كيومي عرفة ويوم النحر، والمؤرق الأخير هو طواف الوداع. الحج حتى وإن هان وسهُل في البداية، فلن يتركك تودّعه بلا مشقّة.. سبحان الذي فرضه وقسم لعباده معه المشقة والتعب. والمشقة التي نعنيها نسبيّة مقارنةً بما عاناه الأجداد، وهي كذلك نسبية بين الحجاج أنفسهم. فالحاج المنعّم والثري، يشعر بالمشقة حين يتشارك غرفةً مع آخر، أو الوقوف في الحر، أو حتى الطواف في الزحام. والحاجّ الذي جاء من مستوى معيشي متوسّط، يشقى بالانتظار طويلا على أبواب دورات المياه، والمشي الطويل، والانتظار جالسا في الحافلات، والشمس الحارقة، والغرفة المليئة بالآخرين والتي لا تكاد تهدأ. بينما الحاج الفقير يشقى في رحلته كلها. فلا حافلة تنتظره وتنقله من مكان إلى آخر، ولا مأوى من حرارة الشمس، فلربما افترش الرصيف ونام على الأرض، وشُح عليه في المأكل والمشرب وإلى آخره من أنواع الشقاء. بل أفقر حاج في عصرنا ربما يُعد في قياس العصور الماضية، أميرا من أمراء الحج. فالأمر نسبيّ كما ذكرنا بالقياس إلى الأزمنة المختفلة أو حتى في الزمن الواحد والتفاوت بين طبقات الحجّاج كما ذكرنا.

جاء اليوم الموعود، والركن الأعظم من أركان الحج، يوم عرفة. نقلتنا الحافلة فجرًا من المخيّم في مِنى إلى عرفات. وأدخلونا في خيمة كبيرة فيها أرائك تتحول إلى أسرة ومصفوفة بجانب بعضها البعض. قضينا معظم النهار في قراءة ودعاء، ثم خرجنا للوقوف في الشمس فكانت شمسًا حارقة. كأنها ناقمة على وجودنا هنا.. ليس ثمة نسيم أو هواء.. حر صامت.. بقينا بين دعاء وقراءة قرآن وأكل وشرب ولله الحمد، حتى أشرفت الشمس على المغيب، فركبنا الحافلة وانتظرنا حتى غابت الشمس، وانتصف الليل ونحن وقوف. الازدحام على أشده، والشوارع بالقاذورات والناس مكتظة.. استمرت الحافلة تحبو تجاه مزدلفة حتى وصلناها بعد منتصف الليل. صلينا المغرب والعشاء جمعًا، ثم أكملنا المسير تجاه المخيم في مِنى. وصلنا عند أذان الفجر، صلينا ثم مشينا على أقدامنا إلى الجمرات لنرمي جمرة العقبة، ونعود راجلين إلى المخيم وقد اكملنا قرابة عشرة كيلومترات مشيًا.. حلقنا الرؤوس وتحللنا من الإحرام. قبل أن نتحلل، شممت في نفسي روائح لم أعهدها، وكذلك جًل الحجاج. روائح تشبه العفن، واستنكرت أن يكون جسدي مصدرها. ألم أعهدك يا جسدي زكي الرائحة على الدوام؟ فما بالك اليوم تبدي لي مالم أعهده منك؟

وهذه من دروس الحج العِظام، أن يعود المرء إلى أصله وأن يقف من جسده موقفا مغايرًا. أن يقف من جسده موقف المستخبر. هل يا ترى أنا هذا الجسد؟ أم الروح التي تدبّ بين جنبيه؟ أم العقل الذي يفكر ويقرر؟ أم العاطفة التي تلين وتشتد وتقرر هي أيضا؟

والجسد آلة قبيحة المنظر، منتنة الرائحة، كثيرة التعب… نجمّله بالثياب، ونزكّيه بالروائح المصنّعة، ونريحه حينًا ونجهده حينًا آخر. هو ليس أنت؟ أنت تستعمل هذا الجسد، فلا يغرنّك جماله ونشاطه وطيب رائحته، فترتاح له ويكون هو معيار القيمة الذاتية لك. يقول الشاعر: فأنت بالروح لا بالجسم إنسانا..

أمضينا يوم العيد في فرح شديد.. واسترحنا قليلا وأكلنا كثيرا وأخذنا من النوم قدر المستطاع. توالت الإتصالات والرسائل وأمضيت بعض اليوم أرد جميل الكلام بأجمل منه، وأهنئ وأبارك للأقارب والأصحاب بالعيد.

في المساء ذهبت أنا وصاحبي باستخدام الحافلات الترددية إلى الحرم، طفنا طواف الإفاضة وسعينا بين الصفا والمروة وقفلنا راجعين بعد أن انتهينا من آخر أركان الحج. في هذا اليوم بالتحديد، مشيت أكثر من عشرين كيلومتراً على الأقدام. وأدركت حينها أن هذا العضو قادر على الذهاب بعيدًا وأبعد مما تصورت. فسبحان الذي زوّدنا بهذه الآلة والتي لا تزال تقوى وتشتد وتعطي أكثر كلما استخدمها الانسان أكثر. وهي أوضح علامة على نشاط المرء من كسله. وربما الذي أعاننا على المشي أكثر، لبس السروال والثوب. فبعد أن تحللنا من الإحرام ولبسنا ملابسنا، نشطت أبداننا وارتاحنا من عناء تغطية الجسد ومواراته عن الآخر. الثوب ساتر، فلله الحمد والمنة على هذا الستر الذي لولاه لسُحقت آدميّتنا وصرنا كالحيوانات.. (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) سورة طه..

عُدنا مساءً مرهقين، أكلنا وجبة العشاء ونمنا وادعين. وفي تلك الليلة وقبيل شروق شمس أول أيام التشريق، وبعد أن فرض النوم سطوته علينا، جاءنا رجل غريب يوقظنا لصلاة الفجر. أذكر أنه ضغط على يدي بشدة فاستيقظت مغضبًا وسألته مستنكرًا: من أنت؟ فلم يجبني واستمر يمر على النائمين ويوقظهم بنفس الطريقة. استعذت من الشيطان وتذكرت أن الحج كله صبر وكظم غيظ. وفقني الله وصليت الفجر مع الجماعة، ثم دعُوت لذلك الرجل وتمنيت له الخير. ومضى اليوم الأول هادئًا ومريحا.. توجّه الحجّاج لرمي الجمرات حين انتصف النهار، وبقيت أنا وصاحبي حتى غابت الشمس. ركبنا حافلةً عموميّة ولما اقتربت بنا إلى محطة القطار أوقفناها ونزلنا. دخلنا المحطة والتي بدورها نقلتنا بيسر وسهولة إلى منطقة الجمرات. رميناها بحمد الله وقفلنا عائدين.. في طريق العودة اضطررنا للمشي مجدداً.. مشينا قرابة خمسة كيلومترات حتى وصلنا المخيّم. أخذنا حظنا من الطعام وبدأنا نخطط لليوم التالي، رمي الجمرات ثم طواف الوداع. وبحكم الازدحام الشديد والحرارة الشديدة قررنا أن نأخذ بالرخصة وأن نرمي الجمرات قبل الزوال، وأن نطوف طواف الوداع ونودع أم القرى قبل صلاة الظهر.

وهذا ماحدث ولله الحمد، ولكن كل شيء بثمنه. اضطررنا في هذه الحالة أن نمشي إلى محطة القطار ومن ثم نمشي باتجاه الجمرات الثلاث، ثم المضي نزولا باتجاه الحرم. ووافق أن وجدنا أولئك الذين يتكسبون من نقل الحجاج على ظهر الدراجات النارية. وصلنا الحرم عند التاسعة صباحًا، أتممنا طواف الوداع بحمد الله، صلينا ركعتي السنة، ثم استقلينا سيارة أجرة نقلتنا باتجاه سيارتنا خارج أسوار مكة.

الرحلة كانت شاقة وكذلك هي العبادة. تكون شاقةً أول الأمر ثم ما أن يعينك الله وتستمر حتى تسهُل ثم تُحبب إليك. أعرف من يتلهف كل سنةٍ لأداء الحج. ولو أن النظام يسمح له، لكرر التجربة في كل عام. لماذا يا ترى؟ هؤلاء فُتح لهم في باب هذه العبادة، وكلٌ يُفتح له على قدر ما يقدّم.. فمن الناس من فُتح له في باب الصلاة، وآخرون في الصيام، وآخرون الصدقة.. وهكذا…

اذكر حين تصفّحت رسائل التهنئة بالعيد أن أغلبها كانت تأمّل الإنسان وتدعو لـه بدوام الفرح. كـ دامت أفراحكم، الله يديم عليكم النعم، وماشابه من الرسائل.

وتساءلت بداهةً هل يدوم الفرح؟ دوام الحال من المحال كما يقال: لكن ماذا لو دام؟

ديمومة الأشياء تُزهد الانسان فيها.. تماما مثل البيت الذي تسكن، والأشياء التي تملك، والنعم التي فيها أنت ترغد. من منا يشفق على يستحضر هذه النعم وديمومتها؟ قليل ماهم.. فماذا لو خسر أحدنا بعض هذه النعم أو كلها، ماذا تراه فاعلا؟ سيفتقدها أشد الفقد وربما كتب الأشعار وبكى على تفريطه بهذه النعم العظيمة ولطم الخدود وشق الجيوب.

هذا ربما الذي أُريد لنا من رحلة الحج. أن نفتقد أصغر النعم وأن نستشعر هذا الفقد ونحمد الله.

نعمة الملبس الساتر والنظيف وزكي الرائحة. فمن لم ينكر جسده والروائح التي تفوح منه في الحج؟ لم يعتد هذه الروائح ولا يستطيع تبديدها؟ ولا انكارها وعزوها لغيره.. هي رائحة طينيّتك.. التي تنفر منها وتهرب بكثرة المعطرات والمستحضرات.

نعمة السرعة التي غطّت جل جوانب حياتنا.. فما أن تريد الشيء وتدفع ثمنه حتى يطرق عليك الأبواب. في الحج كلنا ننتظر.. لا شيء يأتي بسرعة وبلا انتظار.

نعمة المسكن الذي لا يشاركك فيه أحد. في الحج تضطر لمشاركة الغرفة مع أشخاص وفي عرفة حتى السرير مشترك وفي مزدلفة تفترش انت والاخرون الارض. اي تتشاركها معهم. تدريجيا يسلبك الحج من نعمة المسكن حتى تجد نفسك مستلقيا على الرصيف وبجانبك شخص لا تعرفه.

نعمة المشي والحركة. وهذه نعمة يضيفها الحج الى جدول أعمالك اليوم. فتنشط وتنجز مالم تظن يوما انك ستنجزه على قدميك. الحج يقول لك أن تلك الأقدام قادرة على صنع المستحيل.. أنت لم تستخدمها جيدًا.

نعمة المشاركة، ففي الحج يتشارك الناس أقواتهم بلا تحفظ ولا ممانعة. وهم خارج هذا النطاق يتقاتلون على الدنيا الفانية. فما بالهم هنا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ هذه من سلطة هذه العبادة على الناس. ولله الفضل والمنة.

ونعم الله لا يحصيها العادّ.. فـ الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد..

One Reply to “”

أضف تعليق