
جاءها على استحياءٍ خاطباً، فزَفّ إليها الخبر من لا تثق به حيث لا أماً هناك ولا أبا. ساق إليها الخبر عمّها وولي أمرها. تلبّكت وترددت، ثم لما قلّبت النظر، فإذا بها يتيمة وإذا به يتيم، وإذا بها فقيرة وإذا به فقير، وإذا بها حالمةُ وتائهه وإذا به كذلك.. يشبهها من كل اتجاه.. حتى هوانه على الناس وجمعه للكراتين يتكسّب منها، يشبه هوانها على الناس وعيشها داخل مطبخ. هو يشبه الكراتين وهي تشبه المواعين، هو في الشارع وهي في المطبخ. تنفسّت الصعداء حين سنحت لها الفرصة بأن تغادر المطبخ، وأن تكون ربيبة بيتٍ هي فيه الآمرة الناهية، ثم لما علِمت خبر الخاطب، تكدّرت وتمنّع الهواء وكادت تختنق. ثم تساءلت بينها وبين نفسها، آلماديات هي التي تمد الإنسان بأسباب السعادة وأسباب الشقاء؟ أم أنها الحياة والأفكار والتجربة والناس؟
ثم نظرت في أمر زوجة عمّها التي تملك تقريبا كل شيء. الزوج والأبناء والبيت والجمال والمال والنسب وحتى الدين، فهي إلا حدٍ ما إمرأة متدينة، إلا أن البؤس ظاهرٌ على محيّاها، والظلم تمتد إليه بلا تحفّظٍ يداها، وهي هي مكتبئةٌ ومتذمرة، تملك كل أسباب السعادة، ولا تزال السعادة عنها قاصرة. مالذي يسعد الإنسان يا تُرى؟ هكذا راح صدى أفكارها يختلج داخل صدرها..
ثم بعد بضعة أيام أعلنت موافقتها فقط لأنها لم تعد تحتمل تسلط زوجة العمّ وجبروتها.. وفي قرارة نفسها هي لا تطمع من هذا المسكين إلا بأن ينتشلها من برود البلاط وقسوته، وظلم العمّ وسطوته إلى دفء الزوجية وتشارك المسؤولية. فما أن مات الأب وتزوجت الأم حتى آلت أمور هذه المسكينة إلى عمها الوحيد، فراحت تعوّل عليه وهو قاسٍ وعنيد وهي لا تملك إلا أن تسمع وتطيع، فليس إلا هو عائل وليس بين العم وابنة اخيه من شفيع. كانت ترجو أن يكون لها أبا ثانيا، فكان لها شيئا ثانياً، شيئاً يشبه العدو المتربّص، والذي بسلب سعاداتها متخصص.. وهي بهذا القرار تتمثل قول الشاعر “ياوجودي وجد من حدّه زمانه على اللي مايبيه”… متوجدةٌ وخائفة ولكنها مستعدة.. فهمها بلغ به السوء لن يكون أقسى من عمها، ولن يكون أظلم من زوجته..
راحت فيما تبقى لها من أيامٍ تودّع المطبخ الذي عاشت في بطنه وحيدة، تُعد الطعام ثم تغسل بقاياه ثم تفترش بلاطه وتنام. وكانت تحدّث الملعقة حديثاً تخصها به وتفشي عند ذات الأذن الواحدة كل أسرارها. كانت تتحدث وترى نفسها على ظهر الملعقة، فكانت لها الملعقة بأذنها الواحدة تشبه برامج التواصل الحديثة التي تنقل الصوت والصورة. خشيت من أن تبوح الملعقة بأسرارها إن هي تركتها خلفها. أخذتها ثم دستها بين أشيائها وهي تهمّ بالرحيل. كانت سعيدة بقرارها وتحاول إخفاء السعادة عن زوجة العم حتى لا تنقض عليها وتسلبها إياها بكلمةٍ جارحة أو وصفٍ نابٍ أو ما شابه. تكتّمت على سعاداتها حتى آخر يوم الذي لملمت فيه شملها واحتضنت كرامتها وراحت تنشد فسحة الأملِ..
أي فسحةٍ هذه يا أبا الكراتين؟ من أين لك بفسحةٍ وأنت تمشّط الشوارع ذهاباً وإياباً تجمع ما زُهد به وقلّ ثمنه وكأنك بعملك هذا تعبّر عن نفسك لا تتكسب فحسب؟ لماذا كنت أنت نصيبي من الدنيا؟ ولماذا كافأك الله بي؟ حتماً هي حكمة الله وقضائه وتدبيره.
وعشية حفل زواجهما الذي اقتصر على مائدة محفوفة، وقطع حلوى مبثوثة، اختتم المشهد باجتماع الهوان على الناس والخجل منهم تحت سقفٍ واحد، وراحت العيون تراقب العيون، والقلوب تخفق خجلاً من الفقرِ ومن سوء الظنون. كلاهما يريد أن يرتمي في حضن الآخر وينسى.. كلاهما محتاج لحنان.. وكلاهما محتاج لإنسان.. وهذا ماكان.
مرت الأيام وهي تدور كالنحلة في بيتها الطيني ترتّبه وتنتقل من زاوية إلى أخرى بخفةٍ تشبه رفيف أجنحة الفراشة، ثم عندما يعود بعلها إلى البيت تحط على كتفه وتأويه وتستحثه وتعطيه. تأويه بحنانها وتستحثه بكلماتها وتعطيه ماجادت به الحياة من ماءٍ وغذاء. فيجتمع لها ويتماسك بين يديها بعد أن عاد إليها منكسراً ومبعثراً من عالم لا يتكلم الا بلغة الدينار والدرهم، وهو منهما خاوٍ وبهما يطمع. ليس لشيء، إلا ليسترد كرامته المسلوبة ويكرم زوجته المحبوبة. فما أن يرى وجهها حتى يحمد الله على رزقٍ لم يكن في الحسبان، ويتفائل ويشعر باطمئنان. فمن أعطاه هذه الفاتنة، سيعطيه مرةً وثانية.
وبينما كان يضع رأسه في حجرها ليستريح بعد يوم شاقٍ وطويل، قالت تستحثه: إنك لن تبلغ مبلغاً أعظم من أن تقرأ المكتوب وتكتب المقروء.. ثم إن الخير كله تابعٌ للعلم، فكيف تصدق فيك أول آيةٍ وأنت تائه ما بين رصيف وشارعٍ وشارٍ وبائع، زاهداً بالقلم وبـ “اقرأ وربك الأكرم”..
ثم ما لبثت تشحنه وتنفض عنه غبار القنوط حتى انتشر كلامها هذا فوق رأسه انتشار السحاب فوق أرضٍ مجدبة، وبلغ منه مبلغا عظيما. فعزم وتوكّل والتحق بمدارس محو الأمية. لم يكن حينها يملك ثمن القرطاس والقلم، ولكن الذي علم بالقلم سيرزقه.. حتما سيرزقه..
انضم للصفوف الأولية وراح بلطفٍ يبري قلمه الطويل حتى مع مرور الأيام لا يزال القلم يقصُر ويصعب عليه الإمساك به، وهي بجواره تمسك بالسراج وتضيء له كل عتمةٍ وتجلي عنه بابتسامتها كل غمّة. كانت تساعده في حل الواجبات وتُقرأوه الحروف والكلمات.. ثم شيئاً فشيئاً بدأ يقرأ ويكتب. شعر بأنها حاسّة جديدة أضيفت إلى حواسه الخمس، بل هي أعظم الحواس وأعظم من الشمّ والسمعِ واللمس.
راح يتمدد له ثغر الحياة وتتردد عليه ابتسامتها ويتّسع له بتواضعٍ طريقها. وراح العلم بطبيعته يُبارك أيامه ويجمّلها، ويفتح له مغاليق الفرص. انفتق عقله بالقراءة وأصبح مادةً خصبةً للتعلم والتجارة. اتسع له صدر الحياة فتربّع على صدرها وبدأ يقطف منها جميل الثمر ويترك قبيحه. توسّعت أبواب الرزق فانتقل من عالم الكراتين إلى محلات بيع الأشياء المستعملة. استقل محله الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم امتلك محلات شارعٍ تجاري كامل. ثم تمددت سلطته وبسط نفوذه المادي على كل مافي السوق من عقارات وأملاك. ثم في بضع سنين أصبح هو السوق، والسوق بدونهِ ليس بشيء.
تكاثر حساده ووجلِ لمرآهم فؤاده، ولكنه استمر في حصد الثمر وسلّم أمره لرب البشر. أليس يحفظ وصية رسول الله صل الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: “ياغلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف”. نعم لقد مر به هذا الحديث في الصفوف الأولى، وقد دمعت عينه لما سمعه، وتنهدت جوارحه ثم استراحت. ثم لما عاد لمزنة في مساء ذلك اليوم، قبّل جبينها وأخبرها خبر هذه البشرى النبوية وكأنه يطمئنها على مستقبلهما معا.. استبشرت هي أيضا بمدى إيمانه وتمثّله، ثم أيقنت أن ضيق العيشِ متسعٌ لا محاله.
وجرت بهم السنين وهم في نماءٍ وارتقاء. المال يتزايد والأبناء في تزايد والدنيا لا تبرح تداعبهم وتسليّهم وتعطيهم حتى كأنها أفرغت كل ما في جيبها إلى جيوبهم. وهكذا هكذا آل بهم المآل إلى أن أصبحوا وجهةً ينشدها من ضاق به الحال وعزّ عليه المال.
هذا ما انتهى إليه الحال، فأصبحوا بقصتهم مثال لمن صبر ثم صبر ثم نال.

مُدهش، تسلسل بديع، وانتقال سهلٌ، وسردٌ لا تقف معه العين إلا عند آخر نقطة.
إعجابإعجاب