لذّة

لأنه يُخذل في كل عامٍ مراتٍ عديدة، حشد لهذه الأمنيةِ أحوالَ قلبه واستحضر لها كل عدّتهُ وعتاده وراحت تلهج بها جوارحه وتتردد على لسانه وهو غادٍ ورائحٌ بين مكةَ والمدينة، وبين صحنِ الطوافِ والروضةِ النبويةِ الشريفةِ، وبين المسعى ومسجدِ قباء. يتهادى بين هذه الأماكن المباركةِ ولسانهُ لا يزال رطباً من سؤالِ الله إياها.

في زمنٍ مضى وفي قريةٍ لطالما اخترق الترابُ بيوتها وغطّى أرصفتها، كانت للحظات تسجيل الأهداف في ملاعبها الرملية لذةٌ يتشوق إليها كل حين، ويتضاعف منسوبُ تلك اللذة إذا ما اختتم ذلك المساء بدخوله بوفية القرية وكله ثقةٌ بأنه يملك قيمة وجبته مع مشروبها البارد. كم تكون الحياة كريمةً معه حينها. فلا يضع رأسه على مخدته تلك الليلةِ إلا والرضى والسعادةَ قد سبقاه إليها. يستعرض شريط يومه باطرادٍ متشوقاً ليومٍ آخر مشابه فتتباعد أشداقه وتنبزغ ابتسامة رضىً ينام وهي لا تزال مرتسمةً على وجهه. ودوام الحال من المحال، فكبُر وهجر تلك الملاعب وبدأ يترفّع عن الركض على الترابِ ويزدري حماسة اللاعبين من نافذة سيارته بينما كان يتسكع مع ثلة من المراهقين. كانت الدنيا كأنها قد حيزت له بمجرد قيادته لسيارةٍ جديدةٍ واقتنائه هاتفاً حديثاً من تلك التي تخزّن الصور والفيديوهات وتنقلها عبر البلوتوث. فما إن يتحسس هاتفه ومفاتيح سيارتهِ حتى يشعر بالغبطة ويعتريه منها قشعريرةٌ تتلذذ بها كل جوارحه ويتشوق لذلك اليومِ الذي يمتلك به سيارته الفارهة.

وفي أواخر سن المراهقة وبعد أن سمِع عن العالم الافتراضي الجديد ورأى حاسوب زميله ميسور الحالِ يتوسط مجلسه، وبعد أن اختبر قدرته العجيبة على قطع المسافات والتقريب بين البشر وحصرهم في شاشةٍ تعرض لمستخدمها ما يشاء وتتجاوب مع رغباته وتلبيها بلا تردد ولا استحياء. تشوّق لذلك اليوم الذي يمتلك فيه حاسوبه الخاص وأيقن أن لذة امتلاك شيءٍ كهذا لن يكون لها أمدٌ ولا انتهاء. فما هي الا أشهرٌ حتى أهدته الحياةُ واحداً بعد تفوقه في دراسته فكافأهُ ذووه بحاسوبٍ جديد وخط انترنتٍ رهن إشارته. انغمس في هذه الشاشة وطرِب لها فؤاده وفتُرت أشداقه لشدة ما ضحك منها وابتهج، وثقُل رأسه واختلفَ لكثرة ما أحاط من معلوماتٍ وقابلَ من شخصيّات. كان العالم حينها يسير ببطءٍ تجاه الواقع الافتراضي وكان هو من ضمن ركب السائرين ومن الرواد والمبشرين، فما إن امتدت به الأيام حتى أصابته السآمة وفترت عزائمه وانفلّت حبالٌ كانت تربطه بهذه الشاشة ومن خلفها. فتقاعس وهجر الظلمة وراح يبحث عن مصدر ضوء جديد، ناشداً تجارب تحيي في نفسه الأشواق وتعطيه منها لذةً لا تنتهي.

تخرّج من الثانوية وسار مع ركب الضاربين في الأرض يطلبون أرزاقهم، فدخل المدينةَ وذُهل من ضخامتها وتشعُب أحيائها وتداخل شوارعها وكثرة اللافتات والإشارات. فأول أمنية طرقت خياله بعد أن دخلها خائفاً يتلفت، هو أن يتآلف مع هذ التعقيد ويسهل عليه التنقل في شوارعها وبين أحيائها من دون دليلٍ أو استعانةٍ بأحد. وراح يردد: ياااااه متى أقود سيارتي من دون قلقٍ تجاه وجهتي المقصودة، ومتى ترتسم خريطة الرياضِ في عقلي اللاواعي، فلا أتردد أبداً وانما بمجرد أن أهمّ بالتحرك من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) أكون قد سرحت حتى أصل. والوقت كفيلٌ بتذليل الصعابِ وتزهيد بني آدم باللذةِ الحاضرة وإخماد نيرانِ الأشواقِ تجاه الأحلام والأمنيات. وفي غضون أشهرٍ قليلة، تعرف على شوارعها وأحيائها، ثم دخل الجامعةَ وخالط طلابها ودكاترتها فنهج نهجهم وأتقن لهجتهم. ثم بدى يذبل لهيب الأشواق بعد أن صار بارعاً في الدوران بكل أريحية، وقيادة سيارته في الزحمة بلا تخوّف، وبعد أن خالط وتعرف على الكثير ممن هم في عمره حتى ظن أنه أحاط بأسرار المدينةِ وناسها وليس ثمة مزيدٌ من التنقيب والاكتشاف، وصارت الحياةُ كأنها تكرر نفسها عليه بعدد الساعات والأيام. لقد جادت المدينة بكل ما لديها، فملّها وملّته وصار يبحث عن شوقٍ جديدٍ تجاه لذةٍ جديدة.

وبينما كان طالبا في الجامعةِ كان ينظر إلى صروح الشركات الكبيرة ويأمّل نفسه في أن يدخلها كأحد منسوبيها يوماً من الأيام، وكان يرى أن في انضمامه لصرحٍ عظيمٍ من هذه الصروحِ سيحل معضلته مع الملالة والسأم، وأنه سيجد ضالته عندما يكون جزءا من هذه الصروح. جزءاً من كينونة هذه القطاعات الضخمة وعنصراً يصعُب التخلي عنه أو المضي بدونه. وكان المميزون الذين تطلبهم تلك الشركات من طلاب الجامعةِ هم أولئك الذين يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، فغبطهم وذابت مسامعه شوقاً لسماع نفسه متحدثا بهذه اللغة، وظن بل آمن بها كمخرجٍ من أزماته وبوابةٍ يدخل منها إلى عالم الأمنياتِ والامتيازات كثيرة التي لا تُستطاع بدون لسانٍ أجنبيٍّ ومتحضّر.
وبسبب بعثةٍ حكوميةٍ غير متوقعةٍ، انتشله الحظ من اللعب حافيا فوق شوارع القرية إلى الرقصِ شبه عارٍ على شواطئ الولايات المتحدة الأمريكية. كان ذلك أشبه بالحلم الذي في تكراره سعادة وفي تخيله فرح.

أتقن اللغة وتفنن فيها تفنن النحّات الذي يجمع ترابَ الشاطئ فيصنعُ منه هيكلاً جميلاً لحوريةِ بحرٍ تنهال بسبب عمله هذا عليه الدولاراتُ إعجاباً بما صنع. وهو كذلك يفعل فعلهُ بالكلماتِ حتى أصبح يحتارُ وهو يختارُ بين الجمال الأوروبي الأصفر والفتنة اللاتينية السمراء. يصفُّ الكلمات ببراعةٍ حتى يُخيّل للأنثى أنهن خلقن جميعا في جملةٍ واحدةٍ وقد قيلت فيها هي وحدها ولن تتكرر أبداً. غاصَ في بحر النساء فاستخرج حليةً جميلةً نادرةً تزيّن بها وظن أن لا ملالةَ ولا سأم، ثم ملّ وسئم.

تفكر في خياراتٍ جديدةٍ تغذّي أشواقه وتشبع شهوته تجاه الحياة بلذائذها فوجد لفترةٍ في العلم ضالته. فراح يتفوق في الجامعةِ ويلمع نجمه في كل فصلٍ يدخله ثم امتد به الشوق والفضول إلى أبعد من المقررات الجامعية فالتهم كل كتاب وقع في حجره، وراح يقرأ ويفكر ويتفكر ويتساءل ويحلل. هنالك أيقن أن الشوق إلى المعرفةِ لا نهاية له، وأن لذة التعلّم لا تضاهيها لذة.. ولكنه اصطدم بعدم حتمية العلم وتغيّره وتبدّل قناعاته من فترة لفترة، فما أن تُثبت حقيقة علمية معينة حتى يأتي عالمٌ جديدٌ يفنّدها، وما إن يطرق باباً من ابواب العلم حتى يجده بلا نهاية.. بحار عميقة وامواج تتلاطم ومراكبه تسير سيرا خفيفا لا يكاد يُذكر.

عاد من بلاد العم سام حاملاً وساماً يؤهله للعمل تحت أيةِ مظلّة شاء، فكان له أن احتار ثم اختار، ودخل مجال العمل واضطرب بدايةً وداهمته الأشواق في ايامه الأولى ووجد للإنجاز حلاوةً ولذة فراح بحماسةٍ يدور دوران الآلة لا تكل ولا تمل من العمل والانجاز والسير الى الامام بلا هوادة وراحت مؤهلاته ومهاراته تنقله من شركةٍ لأخرى ومن بيئةٍ عمل لأخرى أفضل منها وهو يزيد والفرص بدورها تزيد وأرصدته تتزايد وقيمته في رصيد المؤسسات والشركات تتزايد بتزايد الأيام. ثم بعد أن استقر في منصبٍ محترمٍ اصطدم بأريكية الروتين وأحس أنه مسمارٌ صغيرٌ في ترسانةٍ ضخمةٍ لا يضرها عطب مساميرها أو تآكلهن. كل إنجازٍ مادي صار لا معنى له، وكل إشادة وظيفية أصبحت بلا رائحة ولا طعمٍ وليس لها مذاق تستسيغه نفسه. توقف قليلا ثم تفكر وقدّر أن في مشروعِ الزواج والارتماء في حضن العائلةِ قد يكون هنالك ملجئ ومذاق حلوٌ قد لا ينتهي وشوق غير منقطعٍ ولذة في النظر في أعين الولد يستحيل أن تنقص أو أن تذبل.

سلك هذا المسلك وكان له من الولد مجموعة، وزوجةٌ مطيعة وجميلة وبيت واسعٌ وحياةٌ مطمئنة ومستقرة ولكن نفسه لا زالت تضطرب بعشوائية وتنشد شيئاً ليس من هذا العالم، نعم ليس من هذا العالم في شيء.

وفي أواخر أحد أشهر رمضانِ الفاضلةِ، جمعَ ما تفرّق منه وانسلّ انسلالةَ خيطٍ رفيعٍ من قطعةٍ قماشيةٍ مهترئةٍ والتفّ حول الكعبةِ المشرفةِ طائفاً ثم استقر في المدينة النبويةِ معتكفا. وفي تينك البقعتين تتضاءل بديهياً سطوةُ المدنيةِ وتضمحّل الأنا وتتضخم في النفس معاني العالم الآخر ومابعد الموت. المآذن لا تبرح تردد حقيقة الدنيا وتفاهتها وتبشّر الإنسان وتنذره، وتأمره وتنهاه. فإن هو قنِط تأمله، وإن هو أسرفَ تحذّره، وإن هو خافَ تأمنه، وإن هو آثر الدنيا على الآخرةِ تتركه لنفسه، وإن هو آثر الآخرة على الدنيا تيّسره لليسرى وتبشّره.

حماسته كانت غير منقطعة النظير بدايةً ثم ظهر الفتور على جوارحه وظنّ في نفسه ظن السوء وهو لايزال يحارب ذلك كلّه بالدعاء واستلهام المدد من الله. كان يفتّش في كل آيةٍ يقرأها الإمامُ عن منهج أو دلالةٍ أو حلّ. فقرأ الإمام قوله تعالى: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا). فما كان من صاحبنا إلا أن تساءل عن مصدر هذا النور، ولمن يُجعل، وكيف جاهد المصلحون ذواتهم وبأي معولٍ كانوا يضربون دنياهم فتمدهم بأشواقٍ لا تنقطع وبآمالٍ لا تنتهي وبلذةٍ لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدوهم عليها بالسيوف؟

وفي لحظةِ تجلّي وهداية، وبينما هو قانتٌ يُؤَمِّن خلف الإمام، أتته البشرى على هيئة دعاء. وهذا الدعاء قد جمع أطيب وأهنأ شيء في الدنيا، وهو الشوق إلى لقاء اللَّه عز وجل وأنعم وأطيب شيء في الآخرة هو النظر إلى وجه اللَّه الكريم، الذي لا شيء أجمل، ولا أنعم، ولا أهنأ من رؤيته. “أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك“.

الدعاء:
((اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمَاً لاَ يَنْفَدُ، وأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعْ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعَدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأْلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ)).

One Reply to “”

أضف تعليق