أنت عادي

المتابع لمنصات الإعلام الحديثة وحديث الشباب بشكلٍ عام يرى بوضوح الإعتقاد والرغبة السائدتين بين طبقة أفراد هذا الجيل والتي يفترض من خلالهما كل فرد على حدا أنه مميزاً، أو مختلفاً، والأهم أنه ليس عاديّاً..

هذه ليست رغبة طامحة أو إعتقادٍ مجردٍ من الأدلة بل أننا نراها معَبّراً عنها بوضوح عن طريق عادات يفتعلونها، وكلمات يتقوّلونها، وأساليب عيش يخترعونها، وأفكارٍ غريبة ينتجونها ويشاركونها مع بعضهم البعض.. وهم بإعلانهم لهذا التميز أو الإختلاف الذي ينشدونه ويتمثلونه، كأنهم يهمسون للآخرين بهذه الفكرة ويحرضونهم على نزع عباءة العاديّة والبحث عن التميّز والإختلاف كـ غاية لا نتيجة..

فهذا يمتهن حرية الأديان ويضرب بكل ماعدا حريته المشوهة الحائط، وهذا يسخر من الزواج والإنجاب والدورة الطبيعية لحياة الإنسان ويتخذ من العزوبية منهجا، وهذا يوثّق لحظة تقبيل قدم والدته في السناب، وهذا يأكل أشياءً غريبة لم يعرف عنها أنها صالحة للأكل، وهذاك يشرب محلولا ساماً ويشارك هذا التصرف الأحمق مع الجميع، وهذا يقرأ كتباً غريبة لأشخاص شاذين ومعظهم قتل نفسه بمحض إرادته وبحثاً عن الخلاص، وقد تقولوا على الحياة الأقاويل، وصاحبنا ينشر تلك المقولات البائسة ويبعثها من مرقدها..  

ماذا يطلب هؤلاء؟ ماذا ينشدون؟

نعم أنهم ينشدون التميز والتفرد، وهم بذلك يجاهرون أفراداً ومجتمعات بهذا الإختلاف أو التميّز .. وشعارهم نحن لسنا عاديّون مثلكم..

تخيل سرباً من الحمام يحلق في السماء بشكل هندسي عجيب، وتعاون متفق عليه بين الجميع بنفس السرعة والإتجاه، وطلب النتيجة نفسها.. وتخيل منظر طائر ينشق عن هذا السرب، ويذهب في وجهةٍ مختلفة، أو يتشقلب تشقلباتٍ لاداعي لها، أو يفتعل حركاتٍ لاتقدم ولاتؤخر في طلب النتيجة المنشودة.. إنما هي محاولة للتميز السطحي الساذج، تميز وشذوذ لا طائل منه.. ليس نتيجة لعملٍ جيد وإنما غاية تُطلب لذاتها.. هذا المشهد يلخص المشهد العام الحاصل في وقتنا هذا.. وتستطيع أن تقيس على هذا كل تميّز أو شذوذ لا معنى منه، ولاغاية له إلا التفرد والإختلاف والخروج عن السرب..

طلب التميز لذاته قد يخلق من الإنسان شخصاً مشوهاً من الداخل.. لايملك حضوراً ثابتاً، ولا معتقداً جيداً وتصوراً سليماً عن نفسه يكون واضحاً ويستطيع مواجهة العالم من خلاله.. وإنما تتقاذفه الأشياء والشهوات، وكل يومٍ هو في واد.. تنقضي أيام عمره محاولاً إقناع الآخرين أنه مختلف.. ويبرهن لذلك بكل السبل الممكنة.. وينتقد وينفر من كل ماهو عادي أو بديهي في شتى مجالات الحياة.. وهكذا تجرجر غاياتهم هذه النفوس الباحثة عن الإختلاف والتميز إلى وحُوولها وتسوقهم إلى كل مالا فائدة منه ولا طائل له..

..

ليس من الخطأ أن تكون عادياّ.. بهوايات تشبه هوايات الآخرين، وأساليب تتشاركها مع أبناء جنسك، ومعتقدات عامة عن الدين والوطن والمجتمع والإنسان موروثةً عن أسلافك، وأنت والآخرين تتبنونها بكل رضى.. ليس هنالك خطأ.. ليس هنالك عيب.. أنها ليست ثغرة في نظامك الذي خلقت به.. لقد خلقت لتكون عادياً.. حتى الأنبياء لم يكونوا خارقين للعادة في معظم الأحوال، باستثناء بعض المعجزات الضرورية أمتازوا بها لتحقيق نتيجة معينة.. لم تكن معجزاتهم غاية يطمحون إليها، بل نتيجة لإعراض قومهم وإقامةً للحجة عليهم..  

هذه العاديّة التي تنفر منها هي جوهرك، هي أنت، هي شخصيتك، هي الكون الصادق والقالب الأنسب لك.. هي الملاذ الذي يحتضنك بكليتك وبجميع صفاتك الحقيقية، من غير تحريفٍ ولاتبديل.. أنت هكذا بعاديّتك، أصدق نموذجاً من نفسك، وأوفر حظاً بها..

احتضن عاديّتك، وافخر بها.. ولاتتنازل عنها مقابل تميّز فارغ لا يغذيه منك الحماسة والصدق والإخلاص..

 أما التميّز الذي يدفعك إليه كل مافيك، من موهبةٍ تطورها، أو مالٍ تكسبه، أو جاهٍ تحققه أو سعيٍ في الأرض تعمرها تحقيقا لمراد الله.. فذلك هو المطلوب.. وذلك الميدان الذي يتنافس فيه المتنافسون بجدية، والذي نتج عنه آداب وعلوم وحضارات..

يقول صل الله عليه وسلم (‏أَيُّهَا النَّاسُ ، اتَّقُوا اللهَ ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ)..

الإجمال في الطلب أي: طلب الشيء الجميل بطريقة جميلة.. أن تطلب الغنى عن طريق العمل المباح والمشروع، لا السرقة..

أن تقدم مادة إعلامية جيدة بطريقة جميلة لتفيد وتستفيد.. بغيتك نشر العلم، لا التكسب البجح، والشهرة الغاشمة..

أن تسعى في مسار وظيفي وتطمح للقمة بطريقة جميلة.. أي أن تعمل وتبادر وتجتهد، لا أن تنافق وتتلون، وتبحث عن واسطة..

سلوك الطرق المشروعة والمباحة، بشكل عام هو ماسماه عليه السلام “أجملوا في الطلب”..

أجمِل في طلب الشهرة، وأجمِل في طلب الغنى، وأجمِل في طلب العلم، وأجمِل في طلب الحضوة، وأجمِل في طلب النفوذ، وأجمِل في طلب الحُب، وأجمِل في طلب الذريّة..

طلب التميز لذاته ليس شيئاً جميلاً.. أنت لم تجمِل هاهنا.. ولكن قبوله كـ نتيجة والسعادة به مطلباً وحقاً مشروعاً لكل إنسان.. لذا أجمِل في طلب التميّز حتى لا تكون عاقبة أمرك خٌسرا.. وتذكر أن كل مابُني على باطل، فهو باطل..

2 Replies to “أنت عادي”

اترك رداً على abcde إلغاء الرد