
عندما يفكر إنسان عشوائياً في موقفٍ سلبي كـ أن يشتمه شخص ما أو يظلمه، تجد جسده غالباً مايتفاعل مع هذا النمط من التفكير، وربما تزداد سخونة جوارحه ويتعرق ويظهر عليه الغضب.. وربما يشتم ذلك الشخص في عقله، وربما هاجمه في خياله وحطّم جمجمته.. ثم يرتاح مؤقتاً.. ثم يفكر في عواقب مافعل، وتصيبه الحيرة، ويفكر في المخرج.. هل يجب أن يعتذر؟ أم أن يبرر لنفسه ردة الفعل.. يصاب بالحيرة، ثم ربما يتيقن لهذه الخدعة التي ساقها عليه عقله.. وهاجمته بها أفكاره فـ كان منه ردة الفعل، والإنحراف عن الواقع، واللحظة..
غاب لدقائق عن الواقع، وكان أسيراً لفكرة ليس لها أصل، إنما هي من بنات عقله المشغول بـ الماضي والمستقبل أكثر من الآن.. عقله الذي يهاجم نرجسيته بناء على معلومات وخبرات سابقة، فتكون منه ردة الفعل بـ بذل بعض وقته والغياب عن اللحظة في غياهب التفكير..
وأحيانا يصوّر له عقله المستقبل الوردي ويسطّر له الأحلام حتى يرتفع منسوب القلق لديه، عندما يفكر في الفشل من بلوغ هذا المستقبل أو الخوف من التقصير في عمل الضروري للوصول إلى هناك.. يشكك في قدراته، ويندم على تضييع الوقت، والتفريط ويغضب ويحزن..
غاب مرة أخرى عن الواقع، وكان فريسة لعقله الذي يبدو أنه يتقن فن التنقل والقلق أكثر بكثير من التعايش مع اللحظة والرضى بها..
ونستطيع القياس على ذلك الكثير من الأفكار التي تلجّ داخل رأس الإنسان وترتبط بشكل كبير بماضيه أو مستقبله أو خيالات عارية من المنطق.. أفكار لاصوت لها ولكنها تحدث الكثير من الضجيج في الداخل..
لافرق في هذه الأحوال بين المجنون والعاقل من حيث التفكير المفرط إلا أن المجنون يفكر بـ صوت، والعاقل يفكر بـ صمت..
الأمس هو ماضي الآن.. والغد هو خيال الآن.. والإنسان بين ماضي وخيال اللحظة.. لم يفلح بالإمساك باللحظة والتواجد فيها، وغالباً ماتضيع هذه اللحظة وهو يغوص في بحر من آلام الماضي وهموم المستقبل..
في كتاب “قوة الآن” يذكر المؤلف أنه استيقظ في ساعات الليل المتأخرة وقلبه يكاد ينفجر من الهلع، وعقله قد طفح منه القلق.. وقال الجملة التي غيرت حياته “أنا لا أستطيع العيش مع نفسي بعد الآن”..
إذن هنالك “أنا” و “نفسي” في الموضوع.. وهذه كانت نقطة التحول وسبب كتابة الكتاب..
عقلك أداة أعطيت لك لكي تحل بها مشاكلك، لا أن تكون السلاح الذي يهاجمك ويختلق لك المشكلات.. يجب أن تفرق بين عقلك وبينـك..
لاتثق بعقلك كثيراً، وانتبه لكل فكرة يمليها عليك..
عقلك لايبهره إلا الجديد من الأحداث، فمنظر الوردة الحمراء والإبتسامة التي تزين وجه من تحب، لاتبهر عقلك لأنه قد ألِف هذا المنظر وهذه الرائحة، وذلك الطبق وتلك الجلسة المكررة مع الأصدقاء.. عقلك يستند على ماضيه في التعاطي مع الأشياء.. فـ طعم الشاي ليس جديداً عليه، ونسيم الصباح كذلك.. وكل تلك الأشياء التي تحبها وتمارسها باستمرار.. أصبحت رهينة العادة وأنساك عقلك معها أن تعيش اللحظة.. فبينما أنت تمارس هذه الأشياء تبدأ عملية الإنقضاض على اللحظة ويبدأ سيل الأفكار والتشويش..
اللحظة شيء صعب الإمساك به بوجود عقول مثل التي نملك، والتي تستحضر ماضيها وتحلم بمستقبلها طوال الوقت.. لماذا ينغص عليك عقلك متعة الشاي وجلسة الأحباب، وافتتاحية اليوم.. يوهمك بأنه شاي مثل الذي تشرب دائما، وجلسة مثل كل الجلسات، وصباح روتيني يشبه كل صباح.. ويمنّيك بـ شاي سيلاني نادر الوجود، وجلسة مخملية نادرة، وافتتاحية يوم مختلفة جداً.. ينغص عليك البساطة وعيش اللحظة..
بالله عليك متى آخر مرة تفحصت الخطوط المحفورة في كف يدك، وأطلت النظر في وجهك ولاحظت التفاصيل، وربما بعض الشيب أو التجاعيد.. وزرعت عليه ابتسامة …
متى آخر مرة تمعّنت في ملامح من تحب (والديك، أصدقائك، ابنائك، زوجتك) وتفحصت زوايا الوجوه، وراقبت ابتساماتهم وتحركاتهم بتركيز شديد..
متى آخر مرة تذوقت الشاي أو القهوة بعمق.. وراقبت الشعور الذي تبعثه هذه الأشياء الصغيرة على مزاجك وفي داخلك من غير أن تفكر في أي شي آخر..
متى آخر مرة استمتعت بالصباح وبشروق الشمس والصوت الذي ينبعث من مسجل سيارتك وأنت تسير بكل هدوء إلى العمل..
..متى آخر مرة أغلقت فيها أبواب الماضي والمستقبل وعِشت اللحظة وأنت تقف وتركع وتسجد بين يدي الله
متى توقفت عن التفكير وأنت تمارس روتينك اليومي..
متى آخر مرة بعثت في روتينك الحياة..
متى آخر مرة عِشت فيها اللحظة؟
لا أقول استمتع باللحظة ولكن عِشهااا.. أصحاب الخبرات الكبيرة هم أولئك الذين عاشوا لحظات كثيرة في حياتهم.. جربوا أكثر، وكانوا واعيين لتلك التجارب بشكل أكبر..
أنظر إلى سقف البيت وجدرانه.. في كل زاوية ذكرى جميلة قد غطاها غبار التفكير عنك لكي تستدعيها وتعيشها من جديد.. كم هي ذكريات الأمس رائعة وتبعث السعادة عندما نستحضرها ونعيشها مره وأخرى.. وهذه الذكرى لم تحفر في ذاكرتك إلا لأنك عشتها ابتداءً عندما حدثت.. في ذلك اليوم وتلك الساعة كنت تعيش اللحظة، فأصبحت تلك اللحظة جزءً منك.. كلما عشت اللحظة كلما أصبحت أكثر نضجاً وأكثر خبرة ورضى وقناعة..
الأطفال هم خير مثال على من يعيش اللحظة بكل تفاصيلها. ليس للماضي ولا المستقبل أي نصيب من تفكيرهم.. لذلك هم ينضجون أسرع ويتعلمون أسرع وهم أكثر استجابة وتفاعل مع الأحداث من حولهم.. هم بكل بساطة يعيشون اللحظة..
ولكي تخرج من هذا المأزق ياعزيزي القارئ.. راقب أفكارنا..فقط سلط المجهر على ماكينة التفكير التي أرهقها الدوران.. وأعط الحاضر من وعيـــك الكثير، فهو المهم وهو الأحق بك من بقية الأزمنة..
أعط اللحظة حقها من النظر والإحساس والشعور والإمتنان لما حولك.. سيطر على اللحظة وعِشها ياعزيزي..
وختاما نذكّر بأنه مامن فكرة أثبتتها التجربة أوالعلوم الحديثة إلا وكان لها في موروثنا أصل..قال صل الله عليه وسلم (أحرص على ماينفعك واستعن بالله ولاتعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وماشاء فعل)..

كلام جميل جداً، الله يعطيك العافية..
إعجابإعجاب