الثقافة إنتماء

دعونا قبل الخوض في الحديث عن الثقافة أن نعرّفها أولاً.

“الثَّقافة في اللغة كما جاء في معجم اللغة العربيَّة المُعاصِر هي مصدر الفعل ثَقُفَ، وهي العُلوم والمَعارف الّتي يُدرِكها الفرد، ومَجموع ما تَوصَّلت إليه أُمَّة أو بَلَد في مُختَلَف الحُقول من أدبٍ وفكرٍ وعلم وفن وصِناعة بِهدف استنارة الذِّهن. أمّا اصطِلاحاً، فهي الرُّقيّ في الأفكار النَّظريَّة، ويَشمِل ذلك الرُّقيّ في القانون والفنون والسِّياسة والتّاريخ والأخلاق والسُّلوك”.

من هذا التعريف يتضح لنا أن الثقافة الإسلامية مأخوذة عن العقيدة الإسلامية وأصول الدين، أو كما قال الشافعي رحمه الله (كل ماقالته الأمة راجع إلى السنة، وكل مافي السنة راجع إلى الكتاب العزيز، وكل مافي الكتاب العزيز راجع إلى أسماء الله الحسنى).

إذن ثقافة المسلم يجب أن تكون إنعكاس لمدى فهمه للإسلام وانتمائه له. وهذا ماكان رائجاً إلى أن جاء الإحتلال ودخل بلاد المسلمين عنوةً وصب تركيزه على العنف والإستخدام المفرط للسلاح وتقسيم بلاد المسلمين طمعاً في كسر شوكتهم وترضيخهم لسلطانه. لكنه بعد هذا كله فوجئ بـ الشراسة التي واجهها من أبناء وبنات المسلمين الذين لاتربطهم رابطة الدم أو الأرض وإنما رابطة الثقافة التي لاترى فرقاً بين القاهرة ودمشق وبقية مدن المسلمين. لذلك كان لابد من تغيير الخطة وإنتهاج منهج مختلف، فـ وجّه المحتل مدفعيته بإتجاه هذه الثقافة الممسكة بشمل الأمة وقرر أن يستهدفها حتى يفرق الشمل ويحط من العزيمة ويملك العقول والرقاب.

فكان من محطات مشروع التفتيت الثقافي التي تبناها المستعمر هي الهجوم على الشعر الجاهلي. فانكب المستشرقون على الشعر الجاهلي دراسةً ونقداً، وادّعوا أنه شعر حسي وساذج وأن شعراء تلك الفترة مهووسون بالجنس والماديات. وهذا استنتاج خطير ينقض فكرة أن القرآن معجز. فلو افترضنا أن هؤلاء الجاهليين لم يكونوا أصحاب بيان ولا أهلا للتحدي فهذا يعني أن القرآن لم يكن معجزاً ولكنه نزل على قومٍ سذج لايفقهون اللغة وسحرهم هذا البيان الإنساني الذي جاء من حيث لايعلمون. والغريب أن هذه الفكرة إنطلت على بعض المثقفين وروجوا لها بغير وعي منهم بخطورة ماروّجوا له.

والمحطة التالية كانت في تضخيمهم لمسألة الترجمة التي تبناها المسلمون في العصر العباسي. فادعوا أن المسلمين أخذوا علوم الحكمة والفلسفة عن اليونان، والطب والفلك عن الهند، والنظام القضائي والسياسي عن الرومان والفرس، وحتى الحديث النبوي ادعوا أنه من بقايا حكِم الهند وفارس والحضارات القديمة، وإلى آخره من الأفكار والعلوم التي عُرف بها أهل ذلك الزمان. وهذا يعني بالضرورة أن العقل الإسلامي يتحرك في المعلوم فقط، ولايطرق باب المجهول ولايفتح الآفاق ولايستطيع أن يأتي بجديد. فكل مالديه هو من بنات أفكار الأمم الأخرى ترجمها عنهم واستفاد منها. قالوا هذا ليقنعوا الأجيال القادمة بعدم التحرج من الأخذ عنهم، والترويج لعلومهم وأفكارهم حتى يهمل المسلم عقله ويصبح مقلداً لايصنع معرفة وإنما ينقلها عن غيره. وقالوا هذا أيضاً إنكاراً للوحي الذي هو مصدر جميع العلوم الإسلامية وإيهام الجيل بأنها بضاعة مستوردة من ثقافات قديمة.

ثم روّجوا بعد ذلك لفكرة التجديد والتنوير عن طريق التقريب بين الثقافتين الإسلامية والغربية حتى ظهر فينا من يقول يجب أن نفكر مثلهم ونعيش مثلهم وأن لا سبيل للنهضة إلا بالأخذ عنهم وحذوا حذوهم. تضخم هذا الوهم، وهم تجديد علومنا بعلوم غيرنا حتى كأن الأمة تناست أن العبث بثقافتها أخطر من العبث بأرضها ومالها. الدعوة إلى التجديد جريمة وطريق إلى هدم الإنتماء وقطع أهم حبال الوصل بين أفراد هذه الأمة وتركها جائعة وعارية ثقافياً إلا من ماتستورده من علوم غيرها.

وفي ظل الإصطياد المستمر لأشباه المثقفين والكتاب للترويج لفكرة التجديد والتنوير تستمر الأزمة في التضخم وتكبر الفجوة بين الفرد المسلم وبين ثقافته وعقيدته. حتى وقع المسلم ضحية أساليب التنفير التي روّج لها دعاة التجديد والتنوير مثل نعت الدين بالتخلف والرجعية، والإلتزام بالتشدد، والخلاعة والفسوق بالإنفتاح والتحرر، والزنى بالحب، والقانيات بالفنانات والنجمات، والخمر بالمشروبات الروحية. فترى المسلم أصبح أجرأ على هذه المنكرات بسبب تزييف المسميات وهذا أسلوب شيطاني قد بيّنه القرآن عندما سمى إبليس شجرة المعصية بشجرة الخلد حتى يسهّل من مهمة آدم عليه السلام في إرتكاب المعصية.

 واليوم أصبح المسلم ينتمي إلى الثقافة الغربية القائمة على الحرية الشبة مطلقة أكثر منه للإسلام وأصبح لايرى حرجاً في تهنئة النصارى بأعيادهم الشركية كـ عيد ميلاد المسيح “الكريسمس”، ولا يرى حرجاً في الإختلاط والتبرّج، ولا في الإستهلاك الجائر الذي تغذيه الثقافة الرأسمالية، ولاحتى في المثلية الجنسية. وقس على ذلك الكثير مما أصبح مسوغاً جداً لدينا وجزءاً لايتجزئ من ثقافتنا العصرية المستوردة.

أما مبدأ الأخوة الإسلامية الذي هو من أهم مقومات ثقافتنا فقد أصبح شاذاً. بالله عليك متى آخر مره شعرت عملياً بهذه الآية أيها القارئ “إنما المؤمنون أخوة”. قد تستغرب أن القرآن يفترض هذا بين المسلمين بينما الفرد المسلم أصبح يغرّد خارج هذا الإطار ونظام حياته اليومي خالي من فكرة الأخوة، ومبني بشكل رئيسي على تحقيق المصلحة الفردية.

ختاماً نود أن نشدد على أنه لاحرج في الأخذ من علوم الآخرين بمايتناسب مع ثقافتنا ومجتمعاتنا، ولكن الحرج كل الحرج في الإتكال الكلي على الآخر في عملية صناعة الثقافة. ولابد أن تتدرب الأمة على إنتاج المعرفة في شتى المجالات بواسطة عقول أبنائها الحيّة من طلاب دراسات عليا ودكاترة ومفكرين وعلماء.

سوف لن تقوم للإسلام قائمة بعلوم الآخرين غربيين كانوا أم شرقيين. وكما قال الأولون “إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم“.

One Reply to “”

اترك رداً على 🌝 moon إلغاء الرد