
نفذ الضوء من موضع تلتقي فيه دفّتي الستارة؛ نفذ كعين اللص برفقٍ وحذر قبل التسلل إلى المكان. فما أن نصّف الغرفة إلى نصفين وقد كانت قطعة واحدة من ظلام دامس، حتى قمت وفرّقت بين دفّتي الستارة، فآن له أن يتمدد بحريّةٍ في الغرفة ويطيش فيها طيش الأطفال. رسم بقعةً على الأرض وانعكس على المرآة واخترق زجاجة العطر وكأن جزءًا منه حُبس فيها.. وراح يمشي على الجدران مشي النمل حتى أستوقفه السقف. إلى هنا أيها الضوء.. للتو جئت من السماء فما بالك تتسلق عائدًا إليها. ألك حاجة من السماء فنطلبها لك؟
جلست على طرف السرير وبت أراقب اتساع بقعته على الأرض حتى اتّسع وانتشر وجاء على قدميّ وارتفع إلى ساقيّ.. ألك حاجة فنطلبها لك؟ لم يجب وكأنه يفتّش عن شيء.. وراح يمشي على جسمي فغطى أكثره، وراح يمشي في الغرفة إلى أن حبسه إطار النافذة في مربّع كبير. ثم لما حُبس كأنه طاش وغضب، فتوهّجت أشعّته واشتدت حرارته ونفخ في الغرفة نفخته فألهبها.
كنت أمنّي النفس بصباح منعشٍ لما باعدت بين طرفي الستارة وفتحت النافذة وقد كان. إلا أن شمس أول النّهار ألطف من شمس الضحى وهذه ألطف من شمس الظهيرة. لقد مضى النهار وأنا مستلقٍ على طرف السرير، فلا أنا إلى النائمين أقرب مني إلى العاملين لما وجدتني مستلقٍ هكذا بين البينين. وتساءلت أيعمل الضوء أم يُلقي بنفسه على الأرض من السماء؟ هذا أمر محيّر.. أليس السقوط أوله عمل؟ الشمس تعمل والضوء نتيجة هذا العمل..
ثم تفكّرت في شأن النّهار هذا الذي يتنفّس فتخمد الفتنة، مثل صوت القانون وعين الرقيب. ووجدت يوم الإنسان مقسوم على قسمين. أحدهما واضح وجليّ والآخر مستور وخفيّ، تماما مثل ما يبديه الإنسان من فعل وقول وما يضمره من أشياء لا يعلمها إلا خالقه و هو. وهذا الإنسان في يومه بين فتنة النهار وفتن الليل متقلّب. الإنسان في نهاره ليس هو هو في ليله. النّهار واضح المعالم ويغلب فيه إعمال الفِكر واليد بأمور الدنيا النافعة وشؤون المعاش. أما الليل ف معتم وكأنه بهذه العتمةِ يحرّض على ما لا يجب، ويعِدُ بستر الفعل عن عين الكون وضميره، فتجدك تُقدِم فيه على ما لا تجرؤ الإقدام عليه في نهارك. ألا ترى أهل الأهواء يطلقون العنان لها في ليلهم ويمتطون ظلمته لتبلّغهم مالا يبلّغهم النّهار؟ الليل عندهم يغطّي والنهار ينزع عن الأشياء الغطاء ويعرّيها وإن تدثرت بلحاف البارحة. فلا تجد أكثر هؤلاء في نهارهم إلا نادمين وفي ليلهم مما ندِموا عليه مستزيدين. الليل ستر والنّهار مجاهرة، وقد أُوكل المجاهرون لأنفسهم وعوفيَ المستترون من هذا التورّط.
فأكثر أفعال النّاس في نهارهم مما يُحمدون عليه وليس الأمر سيّان لما يجنّ الليل ويلقي عليهم لباسًا يغطّي أفعالهم ويسترها عن عين النّاس. في النّهار النّاس كأسنان المشط وفي الليل يتمايزون.
فتنة النّهار الرّياء وفتنة الليل الخلوة. في النّهار الكل يراك وأنت ترى نفسك، فتترفّع عن السفاسف ظنّا بنفسك عنها، وفي الليل لا يراك أحد ولا ترى نفسك كما تراها في النّهار، فتجرؤ وتقدِم ولا تتردد.
النّهار أشبه بفعل الإنسان والليل بضميره. فكم من أفعالٍ يُحمد ظاهرها وباطنها يُبرئ إلى الله منه.
النّهار ميدان الجميع والليل ميدان المخلصين.
**
وقد قرأت وسمعت عن فضل عبادة اللّيل وأنها تقوّي الإيمان بعون الله وتثبّت السائرين، وكنت أتساءل لماذا؟ علمًا أن العبادة في غير هذا الموضع واجبة كأداء الصلاة المفروضة، والعبادة التي في الليل من السنن المستحبّة، كقيام الليل وقراءة القرآن. أيفضل المستحب الواجب؟ وليست المقارنة من هذا الوجه بدقيقة، إنما أداء الفرائض يجد الإنسان ما يدفعه إليه ويعاونه عليه. بينما قيام الليل لا أذان له، ولا جماعة فيه، والجسد مُستريح من تعب النهار ومستعدّ للدعةِ والنّوم والأمر فيه سعة وهو من السنن المستحبّة لا الفروض الواجبة، وقد انتفت فيه الأسباب المحسوسة حيث لا عين ترى ولا لسان يمدح. لذا هو من أدل العبادات على الإخلاص. فمن ترائي وأنت تصلي بالليل في بيتك صلاةً ليست مفروضة؟
فكما أن الليل يستر أهل الأهواء والمسرفين على أنفسهم، كذلك الليل مع السابقين إلى الخيرات، يستر أعمالهم عن النّاس ويغنيهم عن جهد مدافعة الرّياء عن أنفسهم. فهو ستر للإثنين وشتّان مابين الإثنين.
ومن خلُص من الرياء أخلص.. رزقنا الله وإياكم الإخلاص في النيّة والقولِ والعمل.
