لماذا نكتُب؟

قديمًا كانت الكتابة أمرًا يحتاج إلى ما يبرّره. فتجد مقدّمات كتب التراث تحكي في أصلها سبب كتابة الكتاب، وكأن كتابة أي شيء لابد لها مايبررها عند صاحبها و إلى النّاس. والكتابة في ذلك الزمان ليست هي التي أردنا الحديث عنها اليوم، لأن الكتابة عُرفت أول الأمر في كأداة ثقافية رفيعة متداولة في نطاق ضيّق كـ تدوين العلم وصك الرسائل والخُطب وترتيب دواوين المُلك، وما إلى ذلك. أما اليوم فالكتابة أصبحت سلوكًا جماهيريًا بقدرِ ماكانت ولا تزال طريقة موثوقة لحفظ العلم ونشرِه.

تقول نادين غورديمير الحاصلة على جائزة نوبل: “إن أهمية الكاتب لا تنقطع.. فأهميته كما أرى تتمثل في أنه موجود لوصف الأشياء التي لا يمكن للآخرين وصفها بسبب إنشغالهم الشديد.”

و لأن الراوية بطابعها المعاصر تعطي لتفاصيل حياة الإنسان الصغيرة أهمية كبيرة، وتستمد قوّتها منها، صار للنصّ السابق ما يبرره ويبرّر وجود الكُتّاب من زاوية جديدةٍ لا يعرفها المتقدّمون، ولم يكونوا بحاجةٍ لها بحسب طبيعة حياتهم وندرة الموارد من حبر وأقلام وما شابه. فالكُتّاب في هذا العصر بمثابةِ العدسة التي تمر على كل شيء، وتسجّل التفاصيل وتعيد صياغتها وطرحها على الطاولة وتقول: اقرأ تفاصيل يومك أيها الإنسان، والتي شُغلت عن التفكّر بها أو حتى ملاحظتها. الكاتب يعيد شريط الحياة عليك، ويقول لك.. لقد مررت من هنا، ولكنك كنت مشغولا بشيء آخر، وأنا الآن أعيد عليك المشهد وأحاول تدوين ماجال في خاطرك حينها، أو ما كان يجب أن يجول فيه. وبالمناسبة عصيّة على العد تلك المناسبات التي ألتقي فيها أشخاصًا يتحدّثون عن كُتّاب قرأوا لهم: “إنهم يكتبون ما يجيء في خواطرنا ولا نقدر أن نعبّر عنه .

مبررات الكتابة تصاعدت باختلاف العصور حتى وصلت إلى العصر الذي نحن فيه، والذي نحاول فيه الإجابة عمّا يدفع الكاتب للكتابة، و حتى غير الكاتب. فالنّاس اليوم يكتبون كثيرًا وإن لم يصنّف أحدهم نفسه أنه كاتب بالضرورة. تحضر الكتابة اليوم كبديل عن التواصل اللساني الذي كان الأكثر استعمالًا للتواصل بين اثنين وأكثر. فمع ظهور الأجهزة الذكيّة والحاسبات الآلية، وُجد البريد الإلكتروني أولًا ثم الرسائل النصيّة ثم تبِع ذلك منصّات التواصل. أما البريد الإلكتروني والرسائل النصيّة فهي كتابة لأطراف معلومة، كأن يرسل شخصٌ بريدا أو رسالة لشخص ما لأسباب كثيرة. فالمُرسل يعرف المُرسَل إليه بالضرورة، وهي تشبه إلى حد كبير المشافهات والرسائل التي عُرفت مذ زمن طويل. أما في عصر منصّات التواصل فقد تغيّر الحال وتبدّل المبرر من الكتابة ومعه الشريحة المخاطبة.

لماذا يكتب النّاس على منصّات التواصل إذن؟

ولنأخذ منصة تويتر أو إكس كمثال على ما نريد تقصّيه في هذا المقال. وعطفًا على ماجاء في دراسات عدّة عن دوافع النشر الإلكتروني غير الموجّة -بمعنى الكتابة لأشخاص لا يعرفهم الكاتب أو ما يسمّون بـ المتابعين- نجد الدوافع تكاد تكون محصورة في التعبير عن الهوية، أو طلب التفاعل والإنتماء، أو التأثير، أو التنفيس والفضفضة، أو التسويق والمشاركة في الرأي العام. وبالنظر إلى هذه الدوافع من الكتابة على المنصّات الإجتماعية، نلحظ أنها تدور في فلك نظرية إدارة الإنطباع، والتي عرّفها إرفنغ غوفمان بـ”عملية قيام الأفراد -بوعي أو بدون وعي-، بالتحكم والتأثير في انطباعات الآخرين عنهم”.  

فالإنسان الحديث يكتب على منصّات التواصل الإجتماعي لـ يحضُر أولا “أنا أكتب إذن أنا موجود“، وبالتالي فهو يكتب لـ يشكّل إنطباعًا معيّنًا عن هذه الذات التي أثبت وجودها بدايةً عبر فعل الكتابة. ولكن هل وجود الإنسان بحد ذاته حدثًا يستحق الكتابة ويبرّرها؟

هذا ما يفهمه الإنسان المعاصر عن نفسِه التي صار وجودها فحسب أمرًا يبرّر الكتابة. هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، نجده قد صرفه النظر إلى نفسه عن المعنى الحقيقي من حياته. فتجده ربّما كتب ليضفي على وجوده معنىً معيّنًا من خلال هذا الفعل المتكرر: كتابة اليوميات، التجارب، المشاركة في الرأي العام.. إلخ.

بينما كان المبرر أو المعنى قديمًا حاضرًا قبل فعل الكتابة، وذلك حين دوّن العلماء العلم، نجده الآن تابعًا لـ فعل الكتابة. بل إلى ذلك، ربّما كانت الكتابة صرخةً في وجه الحياة التي غاب عنها المعنى والمشروع الذي يشغل الإنسان ويحرّكه باتجاهات واضحة. ففي غياب معنى أو مشروع حقيقي، قد يلجأ البعض إلى “عرض زائف” للحياة عبر تغريدات مكثفة، حكم، قراءات، تحليلات… حتى لو لم تنبع من تجربة عميقة، محاولًا بذلك إضفاء طابع معيّن على حياته وموهمًا الآخر بجدوى حياته. والقارئ البسيط يمكنه الخلوص إلى أن النشر المتكرر بشكله الحالي يعدّ أداةً للتغطية على شعور بالتيه أو الفراغ، لا كتعبير أصيل عن علمٍ حقيقي أو تجربة ذات مغزى.

“يقول جون سيرل: من الصواب القول إن اللغة المكتوبة تمكن الحضارة. لكنني سأذهب خطوة أخرى وأقول إنها لا تمكنها فقط بمعنى جعلها ممكنة، بل إنها تشكلها. إنها عنصر تأسيسي للحضارة، حيث إنه لا يمكنك الحصول على المؤسسات الاجتماعية المحددة للحضارة دون وجود لغة مكتوبة. لا يمكنك الحصول على جامعات ومدارس. ولكن ليس المؤسسات التربوية فحسب، ولكن حتى امتلاك المال أو الملكية الخاصة أو الحكومات أو الانتخابات الوطنية، أو حتى الحفلات العامة والزيجات”..

فالكتابة في أصلها وسيلة لغاية سامية؛ تتمثل في تمكين الحضارة الإنسانية. وما نراه ونقرأه في مواقع التواصل هو أشبه بـ تصدير المعرفة في قالب استهلاكي منه بـ تمكين الحضارة الإنسانية. وفي الثريد أو التنظيمة خير مثال على العرض الاستهلاكي للمعرفة والمحاولة البائسة في تكوين إدارة الإنطباع عند الآخر. تجد أغلب التنظيمات تستطرد في ذكر تجربة بسيطة ومحاولة تضخيمها أو أنها عملية سرد لمعلومات متاحة على الشبكة في قالب جديد. فليست المسألة علمًا في حاجة للتدوين والنشر بقدر ما هي محاولة بائسة لإثبات الوجود وإضفاء معنى لحياةٍ في حاجةٍ ماسّة لمعنىً ما.

مراجع:

https://atharah.net/can-we-deal-with-love-feelings-without-language/

Goffman, E. (1959). The Presentation of Self in Everyday Life


 [ra1]” ومن هُنا يقول أندريه جيد: “انظر لنفسك على أنك وسيلة وبالتالي لا تفضّل نفسك مطلقًا بوصفك الغاية المختارة على العمل.”

أضف تعليق