
حين أسند ظهره إليّ كان مملوءًا بالفرح وبدا أثقل مما هو عليه حقيقةً. وقد كان للتو أنهى مراسم التعيين في اليوم الأول من الوظيفة. أُعطي نبذة عن المكان، وسُلّم هديّة رمزيّة طُبع عليها شعار المنظّمة، وأُعطي جهازه الشخصيّ، وحُدّد لك مكتب بين عدّة مكاتبٍ تتشارك طاولةٍ بيضاء عريضة، وفي نهاية المطاف وقع الاختيار عليّ لأكون لـه كرسيًّا. وحالما استراح وهيئ المكان ووضع كل شيءٍ في محلّه، استقبل جهازه الآلي وفتح الهيكل التنظيمي للمنظّمة ليرى كم بينه وبين الرئيس التنفيذي من مدير وكم من السنوات سيحتاج، وكم شخصًا سيُداهن، وكم كرسيّا سيبدّل حتى يصل إلى الكرسيّ المنشود، كرسيّ الرئيس.
التفت إليه زميله الذي يجلس بجواره، ورحّب به وقال: ما أراك إلا متسلّقا جديدًا يظنّ أنه أذكى وأحضى من الذين سبقوه. و ابتسم ابتسامةً خفيفةً يتودد بها لزميله الجديد ثم أعطاه نبذةً عن المكان وأتمّها متحسّرًا بأنه هنا منذ ثلاث سنوات، وأنه كان يجب أن يُرقّى للمنصب التالي العام الماضي، لكن حضوره في مكتب المدير العام قليل، وبحسب القرب والبعد عن عين المدير، تكون الترقيات. تبسّم صاحبنَا واطمأن، وعلِم أن المعركة ليست معركة عضلات، بل سباق خيوط خفيّة وتكتيكات عبقريّة وشعرة لابد أن تكون مثل شعرةِ معاوية. يمدّها حين لا يمكنه إلا مدّها ويشدّها حين تكون له اليدُ العُليا. وهذا ما وطّن نفسه عليه وأعدّ له العدّة، أن تكون له اليد العُليا عبر ما يزعم أنه ذكاءً إجتماعيًّا.
كثيرون الذين جاءوا بنفس الطموح، وكلٌ ينسج طموحه بحسب القيم التي غُذّيَ بها. فمنهم من يجيء وهو محمّل بالعمل الجاد والصدق ورغبة في التعلّم، ومنهم من يجيء بجلدٍ كجلد الحرباء، يتلوّن بحسب المناسبة والظروف وأمله في الخيوط الناعمة التي يمدّها بينه وبين المسؤولين.
ولقد شهدِت على صراعاتٍ كثيرة، كلها تزول ونبقى نحن معشر الكراسي شهودًا على ما مر، من أفعال وأقول فيها خيرٍ وفيها شر. ولأني جماد، فقد أُعفيت من هوى نفسي ومن محاولة قهرها والتغلّب عليها، وكل الكراسي مثلي وأكبر طموح أحدنا أن يكون مستعملًا برفق وألا يُرمى به إلى المخازن أو السطوح أو النفايات. فهناك إما غبار وإهمال تتعذر معه الحياة، أو شمس حارقة تسلخ ظاهر الجلد وباطنه، أو رائحة كريهة و وضاعةٍ وتكسير. وأسعد الكراسي القديمة من رميَ به إلى التقاعد عند القمامةِ فجاءته يد محتاجة وانتشلته من أيدي الزاهدين به، ونفضت عنه الغبار، و ألانت له الملمس، واحتفت به ووضعته في صدر أو زاوية المجلس.
و صاحبنا هذا أثقل كاهلي بجلوسه الطويل أول الأمر، فقد كان يطمع أن يُري المسؤول عنه صرامةً وجدّية مفتعلة. كان يجيء أولًا ولايبرح كرسيّه إلا ليصلي أو ليغادر المكان بعد خلوّه من الموظفين. وهذه أول الخيوط التي كان ينسج، وقد نال بذلك استحسان الجميع، وأولهم المدير العام. وكثيرًا ما أٌشيد بالإنطباع الأولي في بيئات العمل، وهي مغالطة نعلم جميعنا كم هي خاطئة ولكنها فعّالة حتى يوم الناس هذا.
وقد يستنكر البعض أني خضت في نوايا الموظّفين وكأني أعلم الغيب وماتخفي الصدور، ويغيب عن هؤلاء البشر أن الجماد أصدق حدسًا من البشر، وأن ما يجتهد البشر لإخفائه عن بعضهم البعض، يبدونه بشفافيةٍ أمامنا وحولنا وعندنا لأنهم ظنّوا أنّا لا نفهم ولا نعقل، فأمنوا جانِبنا واستراحوا لنا وأبدوا لنا من صفحات نفوسهم مالم يبدوه لأقرب الناس. وأنا أزعم أني مختلف، وأظن ظنّ المتيقّن أني مميز. فقد أشعر بحديث نفس الجالس فوق ظهري وكأنه يحدّثني. وأجد في الآية الكريمة نفسي كثيرًا، وكأنها أُنزلت فيّ، وهي في قوله سبحانه: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: 21]. في ذلك اليوم، سأقول كل شيء لأن الذي أنطق الجلود، سيُنطق الخشب و كلّ الجمادات، فلا تكثروا شهود الأرض عليكم يا معشر بني الإنسان. سأدلي بشهادتي في يوم لا ينفع فيه المال ولا البنون.
**
بدا أثقل مما عهِدته وكأنه بجسده المُلقى فوقي يظنّ ظنّ المتيقّن بأني أعرفه وأُكبره في نفسي كما يكُبر نفسَه عند نفسِه. وليس ذلك لشيء إلا لأنه قفز في سلّم الوظيفة قفزات غير مسبوقةٍ وذلك أورثه شيئا من كِبر عند نفسِه وعلى أقرانه.
ثم لمّا انتهى إلى هذه الحقيقة؛ ثقُل على الأرض والكرسيّ وفي نفوس النّاس. ولا يزيد الكبِر في المكتبّر إلا الثقل الذي لا قيمة له في عُرف النّاس. كالذي يملؤ جيوبه بالتراب متوهّمًا أنه زاد على غيره بشيء. وأعجب من زُهد الإنسان بالتراب وقد خُلق منه. ولو كنت مكانه لأعطيته مكانةً تليق به. و علّة البشر زهدهم بما كثر عندهم، وتعلّقهم بما قل وما ندر.
ولما كنت أنا ككُل الكراسي في زمن مضى، علامة الملك ودليل الحضوة السلطة، صرت في هذا الزمنِ لا أدل على أني من بديهيّات الحياة وأعراف النّاس.
ومضت الأيّام وصاحبنا يتسلّق فيها على أكتاف الذين يحابيهم وما أشبه حاله بحال العنكبوت. ينسج خيوطًا هي أوهن الخيوط ويظن أنه يصنع مملكةً عالية الأسوار، عصيّة على الأشرار. وما هي إلا نفحة من هواء حتى تُقتلع مملكته وتفشل حبكته.
ولمّا علا حتى صار على رأس الإدارة بعد سنوات قصيرة قال بفمٍ مليان “وُلّيتم عليكم ولست بخيركم” يكررها لسانه وينكرها قلبه. وانتفخ صدره وثخُن صوته وهدأت مشيته وصار لها صوتًا يُسمع من بعيد. وقلّب الأمر على وجوه كثيرة، فراح بحكم التجربة يقرّب المتملّقين وينفّر المجتهدين ويضيّق عليهم. حتى لم يعد تحت إمرته إلا من هم على شاكلته. وكذلك هي الطيور، على أشكالها كما يقول المثل تقع. وظن صاحبنا أنه من شر أعماله نجا، فمشى مشية الخيلاء حتى جاء اليوم الذي نُصّب فيه مديرًا جديدًا على رأس القطاعِ الذي هو فيه، والذي بدوره راح يهمله ويتجاوزه كأنه ماكان ولم يكن، حتى علِم ألا مستقبل له في هذا المكان، فجمع ما بقيَ عنده من مروءة وأعلن الإستقالة.
**
ولأن الأيام دولٌ والمناصب لا تدوم، انزاح ثقل ذلك البغيض عن كاهلي، وصرت فارغًا ووحيدًا ومنتظرًا الموظف الجديد.
**
