
الأمر كلّه لله، إن شاء هدى وإن شاء اجتبى وإن شاء أضل وأشقى. والسعيد من هداه الله واجتباه، والشقي من أضله وأشقاه. أما بعد: فقد مرّ بي أن رجلًا طاعنًا في السنّ، أناخت الحياة رِكابه، وأعاضته عن حركة قدميه بكرسيّ يسمّونه “متحرّك”. يائسٌ من الحياة ونافضٌ يده منها، قد رمته الأقدار في حضن لا دفءَ فيه ولا مخرج منه إلا إلى القبر. فعلِم علم اليقين أنه هالكٌ لا محالة، وأن ما صار أمره إليه إما ابتلاء يخُفف به من سيئاته قبل الرحيل، وإما عقوبة على ما مضى منه في الزمن الجميل. وإليكم قصة الرجل:
في يومٍ من أيام المربعانية، وهي أيامٌ يشتد فيها البرد ويبطش بطشته، امتلأت مثانة صاحبنا بالبول أعزكم الله، وهو كما تعلمون عاجزٌ عن الحركة وضائق صدره بهذا العجز، وقد كان رجلًا نشيطًا فيما مضى، ورجلًا يقف على حاجته بنفسه منذ شبّ واشتدّ ساعداه. تذّكر تلك الأيام بلمحة سريعة وهو يعالج البول الذي يضغط على مثانته وهو يحبسه بما بقي لديه من صبر وعزم. أطلق صوته ينادي به عجوزه الشمطاء، ولكنها ربما سمعته فلم تبالِ به، وآثرت تركه يستغيث كالأطفال وهي عنه معرضه وبهذه اللحظة منتشية. فكم كانت تنتظر هذه اللحظة التي تتفوق فيها عليه، ويعلن لها رضوخه ويطلب منها حاجته. فقد حدث وهاهي تسمعه يناديها طوال اليوم، ولم يزدها ذلك إلا إنتشاءً وإعراضا.
سمِعته فأهملته، وصبر الرجل فلم يدرِ حتى سال البول على قدميه وبلل الفراش. فـ بقدر ما فرِح بانقضاء حاجته، تسلل إلى قلبه الخوف والقلق. كيف ستجد هذا الأمر تلك العجوز الشمطاء؟ هل ستربّت على كتفيه وتبدله ملابسَ نظيفة، ثم تأخذ الفراش وتأتي بآخر نظيف ومعطّر؟ هذا مستبعد، بل ستمطر أذنيه بوابلٍ من رصاص الكلمات القاسية، تلك التي يفضّل متلقّيها فقدان حاسة السمع على أن يسمع مثل ذلك العتاب. ومضت ساعات والرجل بين هم رائحته القذرة وملابسه المتبللة وفراشه المنتن. فبعد أن حدث ما حدث، قرر ألا يناديها وأن يصبر على ماهو فيه إلى أن يكتب الله له مخرجا. كان يمنّي نفسه أن تزوره ابنته التي تسكن في الطابق العلوي زيارةً مفاجئه، أن تنتشله الصدفة من براثن غضب وسطوة العجوز التي قريبًا ما ستحل عليه. لكن البنت لم تفاجئه ولم تأتِ ولم يبدر من الطابق العلوي صوتٍ يوحي بأنها قد فتحت الباب أو أغلقته، ولا دربكة توحي بأنها نازلة مع السلّم. البيت شعبي قديم، والأصوات تمر خلاله بحريّة. لا تعرف جدرانه عزل الأصوات ولا تستطيعه.
وآلمه أنه في انتظار أمرٍ لن يحدث، لعلمه أن البنت على خلافٍ مع أمها شديد، وأنهما لا يتزاوران ولا تسأل أحداهما عن الأخرى ولا تطمع البنت إلا بخبر نعي أمها إليها، ولا تطمع العجوز إلا بخبر انتقال ابنتها وزوجها إلى بيت خاص حتى تستغل هي المكان وتنتفع به وتأجّره لمن يدفع أكثر. ومثلها لابد أن تكون امرأة بخيلة. لأن البخل آفة تمحق بركة الإنسان وتنزع منه كل صفاته الجميلة. فالبخيل بماله، بخيل بمشاعره بالضرورة، وبخيل بكل خلقٍ حسن.
وبقي للرجل أملٌ أن يجيء ابنه البكر أو أن تجيء زوجته الحنون. علمًا أنهما يسكنان قريبا منهما، لكن ابنه لا يكون في هذا الوقت من النهار إلا ساعيًا في طلب الرزق وبعيدًا عن البيت أبعد ما يكون. وزوجته الحنون تعطف على الرجل المقعد ولكنها تخاف من العجوز خوفًا يثنيها عن زيارة بيت والديه إلا برفقة زوجها. فلما أعمل عقله في كل تلك الخيارات، علِم استحالة أن يؤل أمره إلا لمن لا يتمنى أن تؤول أموره إليه في أحسن أحواله، فما بالك بحاله الآن. استسلم للواقع المفروض، وراح يتوقع مجيئها في أي لحظة.
استوحشت حين غاب الصوت المستغيث، وكأن صوت استغاثته هو الوقود الذي عليه تعيش، فراحت بفضول كريه تريد إلقاء نظرةٍ عابرةٍ وقاسية عليه. دخلت عليه وعلمت من رائحة المكان أنه بال وأنه بلل نفسه والفراش.
قالت: أعجزت أيها العجوز الخرِف أن تحبس نفسك حتى آتيك وآخذك إلى الحمّام؟ ليتني آخذك إلى القبر قريبًا واستريح منك.
تقبّل الإهانة منها وأشاح بنظره عن وجهها العابس. وظل ينتظر أن تنثُر مافي جعبتها من بذيء الكلام. لن تقف عند هذا الحد، وسوف تستمر بإهانته وإذلاله كما كانت تفعل منذ خارت قدماه وعجزتا عن حمله.
فلما لم تجد في نفسها كلماتٍ قاسية جديدة استدارت ثم استشاطت وجن جنونها، وأرادت أن تزيد له الغلّة وأن تذيقه من الألم نوعًا مختلفًا. أخذته بكرسيّه إلى فناء البيت وفتحت عليه الماء وحمّمته بماءٍ باردٍ في جو شديد البرودة وتركته هناك لبضع ساعات. لم يطفء غيضها برد الشتاء ولا برد الماء.. لم يطفء لهيب الغيظ فيها إلا أن رأته يهتز من البرد كأن شيطانا أصابه. وظل الرجل ينتفض حتى ظن أن الموت أقرب إليه من رحمة العجوز به، وقال في نفسه، بئس العشير عشيرك أيتها العجوز الشقيّة. فوالله لن يجمع الله علي شقاءً في الدنيا بصحبتك، وشقاءً في الآخرة بصحبة الكفرة والملحدين. فالله أرحم بعباده أن يجمع عليهم عذابًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة.
وبعد بضعة أيام.. وقد أصابه المرض لما كان من تلك الليلة، و لما تأكد من هدوء المكان وخلوّه من الناس، بكى. بكى واسترجع تلك الأيام التي كان يُؤثر فيها زوجه بوقته ونفسه وماله. استرجع أيام نشاطه وشبابه، وفيما مضى خلّانه وأصحابه، وكثرة ماله وإنفاقه منه غيرَ آبه، وبنينه وبناته ومن بعد أحفاده وأنسابه. آهٍ على تلك الأيام وعلى الشباب والصبابة. آهٍ على قدمٍ يتجاوز بها عتبةَ بابه، ويفر فراره من الوحش ومخالبه وأنيابه. واستدرك على نفسه وعلِم أنه هو من آوى هذا الوحش وآثره على من سواه، وأنفق فيه زهرة عمره وأحبّه واحتواه، ثم لما جاء وقت رد الجميلِ، كفر به وأضناه وأشقاه. وعلِم أن الملامة كلها عليه، فكيف يُتوقع من مخالب الوحوش الضارية، الرحمة والسلامة والعافية. فقد أبدت منذ صغرها قسوةً في القلب ونزوعًا إلى العنف، فما زال يؤدبها ويأمرها وينهاها، وظن بنيّته الطيّبة وعطفه عليها ورحمته بها أنها ستتغيّر، وهذا ما لم يحدث، مصداقًا للمثل القائل: من شبّ على شيء شاب عليه.
ثم تذكّر أبنائه وبناته، فلم يدرِ بأي عين ينظر إليهم. بعين الأب الذي يعتب على تضييع عياله له، أم عين الأب التي تعتذر للعيال عن كل خطأ وتقصير. وربما مر به خاطر يحمل صورة أحد أحفاده، وقد كان يُأمل نفسه بنبوغ هذا الحفيد وأنه سيملأ الدنيا ويشغل الناس، وأن فيه العوض عن الأبناء والبنات، ثم استدرك أن أيامه لن تطول وأن لن يفرح بنجاح حفيده ونبوغه حتى وإن فعل، فخمدت تلك الفرحة العابرة وظن أن الدنيا مدبرة والمقبل القبر والآخرة.
وفّقه الله لنطق الشهادتين، وانسلّت روحه برفق ولين، والحمدلله رب العالمين.
**
جاء عنه صل الله عليه وسلم أنه قال: (لا تُنزَعُ الرَّحمةُ إلَّا من شقيٍّ).
“والرَّحمة: هي الشَّفقةُ ولِينُ القَلبِ ورِقَّتُه على الخَلائقِ، والمعنى: لا تُسلَبُ هذه الرَّحمةُ والشَّفقةُ، «إلَّا مِن شَقِيٍّ»؛ لأَنَّ الرَّحْمة عَلامةُ الإيمانِ، ومَن لا رَحمةَ عنده فلا علامةَ إيمانٍ له، ومَن لا إيمانَ له فهو شَقيٌّ، وعليه فهو تحتَ طائلةِ الكُفرِ والعِصيانِ. وَقيل: إنَّ حَقيقةَ الرَّحمةِ إرادةُ المَنفَعةِ للنَّاس، وإذا ذَهبَتْ إِرادةُ المَنفَعةِ من قَلبِ المَرءِ فقد شَقِيَ بِإرادة المَكروهِ لِغيرِه، وَذهبَ عنه الإيمانُ والإِسلامُ؛ فَكانَ شقِيًّا. وقيل: لأنَّ الرَّحمةَ والشَّفقةَ على خَلقِ اللهِ سَببٌ لِرحمَتِه تعالى، فمَن حُرِمَ ذلك فهو شَقيٌّ.”
موقع الدرر السنّية..
