
في الفيلم الصادر حديثا عن ديزني لاند inside out أو قلبا وقالبًا، مشاعر تختلج داخل عقل فتاةٍ صغيرة ويحاول كلٌ من هذه المشاعر السيطرة على الفتاة والتحكم بردود أفعالها. المشاعر كانت كالتالي: فرح، حزن، غضب، اشمئزاز، خوف. وكان المسيطر الأكبر هو الفرح، بحكم صغر سن الفتاة والتي لا تعرف من الحياة إلا اللعب واللهو والفرح. قد تنتابها مشاعر الحزن والخوف والغضب والاشمئزاز ولكن الفرح هو الذي يبسط نفوذه على تركيبتها النفسيّة خلال سنوات عمرها الأولى. وهذا مُلاحظ ويكاد يكون هو السمة الأبرز عند كل الأطفال الذين يعيشون حياةً سويّة وتحت رعاية عائلات أسوياء.
تبدأ الإثارة في الفيلم حين تبلغ الفتاة سن المراهقة، وحين تدخل في اللعبة مشاعر جديدة سببها التقدّم في العمر. في هذه الحالة يدخل التوتر، والحسد، والإحراج. فما أن تبرز هذه المشاعر الجديدة حتى تحاول السيطرة على الفتاة، وهنا يستلم زمام الأمور “التوتر” ويبدأ الفرح بمحاولة استعادة السيطرة ويستمر الصراع حتى نهاية الفيلم.
الفكرة الأساس في هذا الفيلم رائعة، وقد تنبّهت فورًا لهذا الصراع الأزلي في داخلي، ولكن هذا الصراع لم يكن قطباه التوتر والفرح، بل التوتر والطمأنينة. الفرح هنا نقيض الحزن وهو الذي يدفع أحدهما الآخر.. تدافع يدفع ثمنه الإنسان من عمره وصحّته.
أما التوتر، فلم يكن أبدًا نقيضا للفرح، بل على العكس، في بعض حالات الفرح الهستيري قد يُصاب المرء بالتوتر.. وكثيرًا ما ردد العامّة بعد الضحك الطويل “اللهم اكفنا شر هذا الضحك” وهذا نوع من التوتر والقلق تجاه عاقبة الفرح الصاخب.
هذا من جانب، ولكن لماذا غاب شعور الطمأنينة أو السكينة عن القائمين على هذا الفيلم من مؤلفين ومخرجين وماشابه؟
قد يجيبنا على هذا التساؤل سؤال طرحه أحدهم على أحد طلاب العلم الفضلاء وهو كالتالي: مالفرق بين تأثير الأغاني وتأثير القرآن، فكلاهما لحنٌ وكلاهما كلام؟
فكانت الإجابة أن الأغاني تؤثر في الإنسان تأثيرًا عموديًا. بمعنى أن المستمع للأغنيات أما أن يرتفع به الفرح إلى الأعلي أو يهبط به الحزن إلى الأسفل. تأثير الأغاني بطبيعته لا يخرج عن هذين الإتجاهين. إما أغنية بهيجة يفرح بها المستمع ويطرب وربما يرقص، وإما أن تكون حزينةً بلحنها وكلماتها مما يهبط بالمستمع إلى دركات الحزن والانطفاء.
بينما القرآن الكريم، لا يذهب بقارئه ومستمعه إلى هذه الإتجاهات، بل يأخذ منحنى أفقيًّا. أي أنه يتمدد بطريقة الاتساع، يُكسب المستمع والقارئ إحساسا لا يمكن وصفه بالشعور بالفرح أو الحزن، بل الانشراح. القرآن يتمدد أفقيا في صدر أحدنا ويمدّه بشعورٍ أكثر ما يمكن وصفه بأنه نقيض التوتر، شعور السكينة والاطمئنان.
قد يفرح المؤمن حين يتلو البشارات بجنّة الخلد ويرجو، وقد يحزن حين يتلو صفات جهنّم وما أعده الله للكافرين ويخاف، ولكن الشعور العام خلال تلاوة القرآن وربما ما بعد التلاوة، هو الطمأنينة والانشراح.
وهذا يُفسر التحولات الكبيرة في نفسيّات أولئك الذين يسمعون القرآن لأول مرة. فالذهول الذي يبدو عليهم والتأثر الشديد بما يسمعون، حتى مع جهلهم لمعاني الكلمات، يفسّره الشعور الجديد الذي ينتشر بداخل أحدهم. لم يحدث أن شعر أحدهم بشيء يتمدد أفقيًا بداخله. كل الالحان التي سمعها من قبل كانت تأخذه إلى الأعلى أو إلى الأسفل. هذه المرة هو يتذوق شعورًا جديدًا. يشعر بتمدد الطمأنينة في داخله من دون أن ينتشي فرحًا أو ينطفئ حزنا. يشعر باتساع صدره وتمدد مشاعره وهدوء عقله وراحة نفسه. يشعر بالسكينة لأول مرة. وقد يغيب عن عقولنا نحن المسلمون أهمية هذا الشعور لأنه ليس بجديد. فما أن يدخل أحدنا المسجد ويصلي ويقرأ القرآن حتى تهدأ آلة التوتر في داخله ويخف الضجيج ويسكُن ويطمئن.
أما هذا المُعرض عن القرآن والذي تتخبطه شياطين الإنس والجان تجده يتدلّى بين فرِحٍ وانتشاء، وحزنٍ وانطفاء. الخيط الرفيع بين هذين الأمرين مفقود من عُرفه وغريب عن ذائقته. فما أن يظهر هذا الشعور مع الاستماع المفاجئ للقرآن حتى ينهار باكيًا أو ينصت باهتمام مُلاحظ. وقد يكون المرء مسلمًا وفاقدًا لهذا الشعور بسبب إسرافه وتفريطه، ولكنه يعرف هذا الشعور إما بالاستعانة بذاكرته أو بالنظر إلى من هم حوله من المسلمين.
وخير مانختم به قوله تعـالى في سورة الرعد: (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ).
