
وجود هواية أو حرفة أو اهتمام بشيء ما خارج الإطار المهني (ماشية، زراعة، رسم، مكتب عقار، طلب علِم، طبخ.. إلخ)، من شأنه أن يخفف من وطأة عدم الرضى –الذاتي- أو عدم التقدير -من الآخرين-.
في الغالب، عدم التقدير يُنظر إليه بعين الاهتمام أكثر بكثير من عدم الرضى، لأن عدم التقدير مرتبط بالآخر، والإنسان لطالما بحث عن المكانة عند الآخر. فهو ما أن يتجاوز عتبة بيته أو يدخل عالمه الافتراضي حتى يتلوّن ويتبدّل بناءً على ما يراه الآخر مناسبًا.
بالمقابل، عدم الرضى يُعد أضر الأمور بمستوى الصحة النفسية عند الانسان. فالكثير مما عُرفوا بالتفوق والنجاح والثراء قد انتهى بهم المطاف في صراع مع الأزمات النفسية والاكتئاب وربما الانتحار. وقد كان هؤلاء محط أنظار الآخرين ومحلّ إعجابهم ولكن هذا الأمر لم يكن كافيًا لانقاذهم حين غاصت أقدامهم بوحلٍ من مشاعر عدم الرضى وأُحيلت انجازاتهم وثراءهم إلى أشياء ماديّةٍ لا معنى لها. هنا يستدرك الإنسان ويعلم ربما بعد فوات الأوان أنه بذل كثيرًا من الجهد والوقت والمال في الجانب الخارجي ذو الانعكاسات النفسية المؤقتة. فحين يعجب بك الآخر ويصرّح بذلك، تشعر بنشوة مؤقتةٍ تذهب ريحها سريعًا. وتبقى أنت بعد ذلك أسيرًا لحالة إعجاب أخرى تغذّي بداخلك مشاعر جيدةٍ تجاه نفسك مرة أخرى، وتستمر العجلة تدور وأنت تلهث خلف إعجاب الآخر ونفسك تئن وأنت عنها مشغول.
الآخر يرى منّا المظهر الخارجي الذي نتحكم به بشكل جيد. فهو يرى الأشياء التي نحيط أنفسنا بها، من علامات تجارية، ومسميات وظيفية، واستثمارات وما شابه. بينما الذات تعرف الحقيقة. تعرف مدى نزاهتنا وصدقنا وطهارة قلوبنا وتعرف النقيض أيضا، من كذب وتدليس وحسد، والتي لا يكاد يخلو منها قلب إنسان. ونحن بدورنا وبشكل مستمر، نضفي على أنفسنا طبقات من العلامات التجارية والمسميات والإشارات المبطّنة المدللة على وفرة الخيارات وكثرة الاستثمارات، ونترك أنفسنا خاوية من الداخل. نبذل الجهد، ونقتطع الوقت، ونضحي بالمال مقابل نظرة إعجاب أو تصريحٍ بذلك أو زر “لايك”.
والأدهى والأمر، أن أحدنا صار يستثمر لحظات الحزن في صناعة تفاعلٍ على منصات التواصل. فما أن يصل أحدهم خبر وفاة عزيز أو مرضه، حتى أذاع هذا الأمر على حساباته الشخصية وأبان للآخر عن حزنه مستجديّا أياه بالمشاركة في الحزن أو حتى التعبير عنه بابتذال، ثم ينشغل عن هذا الحزن الضروري الذي ربما أعاد له توازنه وأطلعه على مآلات الأمور بالرد على الرسائل وشكر المرسلين والمتصلين. بينما كان يمكن أن يكون له الموت أو المرض واعظًا، وأن يرده أحدهما لنفسه، فيتفقدها ويسمع أنينها ويتعرف على عيوبها ومشكلاتها.
- لا بأس أن نسعى للتقدير والمكانةِ والحضوةِ عند الآخر، ولكن العبرة في ماذا وراء هذا السعيَ كُلّه؟ هل هو سعيٌ بلا وجهة؟ أم أنها وجهةٌ بلا معالِم؟
**
هذا من جهة عدم التقدير، ماذا عن عدم الرضى؟ يقول ابن الوردي في لاميّته المشهورة:
قصّر الآمال في الدنيا تفُز .. فدليل العقلِ تقصير الأمل
وهذا البيت الأمر ينخر في صميم الفكرة الغربية عن الذات والتي تركز على تضخيم الأنا ورفع سقف التوقعّات وإلقاء اللوم على عاتق الإنسان وكأنه يملك من الأمر شيئا أو أنه هو مقدّر الأقدار ومكوّن الأكوان. “نعم تستطيع” هي قشرة الموز التي تزحلق بها جُل الطامحون حتى سقطوا واحدًا تلو الآخر في ثقب أسود –من التوقعّات– لا قاع له. وخطر هذه العبارة في أنها تستبعد من المعادلة “القضاء والقدر”، وتنصّب مكانهما الرغبة والعمل. ما دمت ترغب بشيء ما، وتعمل على تحقيقه، فأنت تستطيع وسوف يتحقق. بينما الواقع والخبرة الإنسانية الطويلة تثبت العكس في كل ميدان وعلى كل الأصعدة. وهب أن إنسانًا ما رغب بشيء ما وعمل على تحقيقه وحالفه الحظ وكان هذا أمرًا مقدّرا بدايةً، فهل ستُحل إشكالية “عدم الرضى” تماما؟
يقول آلان دو بوتون في كتابه “قلق السعي إلى المكانة” مامعناه: لو أن شخصًا ما حقق ثراءً واسعًا وشهرةً مرضية وعاش راضيًا لفترة من الزمن، ثم اكتشف أن زميله في المدرسة أو صديقًا قديمًا حقق ثراءً أكبر وشهرةً أوسع، لاشتعلت في داخله نيران الحسد وبقي غير راضٍ عن نفسه.
فتّش عن هذا المعنى في داخلك وفي أحاديث الزملاء العابرة، وستجده حقيقةً لا ينكرها عاقل.
وقد يظن ظان أن ما يدعو إليه العُقلاء من تقصير الآمال، هو دعوة للكسل والقنوطِ وترك فعل الأسباب. وهذا مما لا شك فيه، تؤيلٌ تنقصه الحكمة وتدفعه السذاجة.
بل اعمل واتقن عملك وأحِب ما تعمل، فهذا واجبٌ عليك وتقصيرك فيه يضر بك على مستويات عدّة. أهمها تقصيرك في أداء الأمانة وهذا ما ستُحاسب عليه من خالقك ومن المسؤولين عاجلا أم آجلا. قم بواجباتك واستمتع بحقوقك واكتفِ بهذا القدر. فإن أُعطيت أكثر من حقوقك فخير وبركة، وإلا فأنت راضٍ بما قدّره المولى لك ومستوفٍ حقوقك كما هو مدوّن في العقد.
وعودةً إلى وجود متنفس بعيدٍ عن مجال العمل، فهو الشيء الذي تلجأ إليه وقت فراغك وينعدم فيه عنصر الزمان. حيث تمارسه بحب وتمضي الساعات الطوال وكأنها دقائق معدودة. فإن كنت تستحق ترقيةً في العمل ولم تحصل عليها بينما حصل عليها الآخر الذي تظنه لا يستحقها، ودخلت في دوامةٍ من عدم الرضى، انتهيت إلى هوايتك ومارستها وخرجت منها بتقدير أكبر لنفسك ورضى ممتد لا يستطيع أحد سلبُه منك. أنت المسؤول عن هذا الأمر والمتحكّم فيه.. أنت المسيطر.
ولأن العالم يسير على خُطى الرجل الأبيض، تشابهت الأهداف والطموحات. مال أو شهرة بل كلاهما معًا، فاحذر ان تميل بهوايتك هذه إلى هذا الاتجاه ويصبح المغزى الحقيقي من هذه الهواية هو تحقيق مال أو شهرة. لا بأس أن يتحقق أحدهما أو كلاهما من هواية أنت تحبها وتمارسها لأنك تحبها، ولكن المصيبة أن يكون مستوى الرضى عنها مرتبط بتحقيق شيء من هذا القبيل.
ماذا لو أحببت الكتابة وكتبت ولم يعجب ما تكتبه الآخرون؟ ماذا لو مارست الرسم كهواية ولم تبع أي من لوحاتك، أو اخترت تربية الماشية ولم تكسب مالا طائلًا، أو جربت الزراعة ولم تنتج أفضل الفاكهة، أو قررت طلب العلم ولم تصبح طالب علم يشار إليه بالبنان، أو احترفت الطبخَ ولم تُعرف بذلك وتُقدّر؟ لا يهم مادمت تغذي هذه النفس بما تميل إليه وتطمئن إليه وتحبه.
الوظيفة لن تملأ الفراغ الذي بداخلك حتى وإن سارت الأمور كما تحب، فيومًا ما ستُجرّد من هذا المنصب لأن الأيام دُول ولو دامت لغيرك لما وصلت إليك. والسلام!..
