يُوسُف

في قصّة يُوسف أشكالٌ من المواساة تحتضن المؤمن من اتجاهات حسّاسة وشديدة التأثير فيه. مواساة تجاه غدر المقرّبين، ومواساة تجاه الهوان على الناس، ومواساة تجاه فتنة النساء وكيدهن.

في باب الغدر يجدر بنا أن نستشهد بهذا البيت الموفّق من الشعر النبطي لـ ياسر التويجري:

كل طعنة تجي من كفّ أخوك الصديق..
تعتبر بـ أي موضع من جسدك: بـ ظهر..


الشاعر يضخّم هاهنا من خيانة الصديق وأن ليس في عُرف الأصدقاء خيانة صغيرة وأخرى كبيرة، كلّ خيانة من صديق هي ليست متوقّعة وعظيمة الأثر “بـ ظهر”. لا يهم الموضع ولا تهم الطريقة، المهم أن كفّ الصديق لا يُتوقع منها ذلك. هذه خيانة الصديق، ومن باب أولى خيانة الأخوة فهي أعظم أثراً وأفتك بالإنسان. ولأن الابتلاء يكون على قدر الإيمان كان ابتلاء الأنبياء أشد من غيرهم. ولنا في قصص الأنبياء عليهم السلام خير دليل وأعظم موعظة.
ثم إن يُوسف بعد أن جُعل في غيابة الجُب بتدبيرٍ من أخوته، أُخرج منه بقدرة قادر ثم بِيع بثمنٍ بخس. ثمنٍ بخسٍ كانت قيمة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، كما وصفه محمد صل الله عليه وسلم. فهذا الذي هو من بيت عميق الجذور في الشرف والنبوّة والنسب، يُقتاد بهوانٍ ويُباع بثمن بخس. ما أشد الإهانة على الرجل الشريف، وهي في وقعها أقسى كلما ارتقى الإنسان في سلم الشرف.. فكيف بها على من تربّع على عرش الشرف بشهادة أفضل الخلق، شرف النبوة والنسب. لك أنت تتخيل كيف كان وقعُها عليه حينها.. وقد قدّم العرب في قولهم )ارحموا عزيز قومٍ ذُل) نعيًا في غاية العمق لهكذا تجربة.

وبعد سنوات و لما شبّ واشتد عوده في بيت العزيز، كانت فتنة النساء له في المرصاد. امرأة ذات منصب وجمال تقول له هيت لك بعد أن غلّقت الأبواب وأعطته الأمان. كانت نظرتها تجاه الأمن قاصرة ومحصورة في شكلها الماديّ “الأبواب”، بينما يُوسف لا يرى للأبواب أي أهمية في عالمٍ لا يخفى على الله منه شيء وهو السميع البصير. همّت به بكل ما فيها وقالت “هيتَ لك” أي تهيّئت لك فأسرع، لكنّه زهد بها مروءةً منه وحفظًا لجانب الرجل الذي أكرم مثواه وخشيةً وإكبارًا لـ ربّه. ورغم مروءته وعفافه، طالته سهام الإتهام وزجّ به في السجن. هو الآن بعيد عن كيد النسوة وقريب من ربّه يتقرّب منه ويناجيه، ولكن لابد أن روحه متأثرة وألمها شديد. فسمعة الرجلِ أغلى من حياته، وهي صدره وعنوانه ووجهه. هي مقدّمة تسبق الرجل حيثما حلّ. والمقدّمات في أحوال كثيرة، تُغني عن كثير من الأفعال والكلمات. لذا حين أمر الملك بإخراجه، أبى الخروج قبل أن تثبت براءته، (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).

ولعظم هذا الأمر وخطره على سمعة الإنسان وعلى المجتمع المسلم ككُل، شدد الإسلام في أمر القذف وسمّاه كبيرةً من كبائر الذنوب، وأوجب على القاذف -رجلاً كان أو امرأه- الحد وهو ثمانين جلدةً ومنعَ قبول شهادته.

**

وأنت يا من وقعت عليه خيانةٍ ما، أو هان أمرك على الناس، أو طالتك سهام الإتهام وأنت بريء، تأتيك رحمة الله مواسيةً في سورةِ يُوسُف، ابتداءً من أشد الغدر ألمًا على الإنسان: غدر الأخوة. يصفح يوسف عن أخوته ويعتذر لهم “بعد أن نزغ الشيطان بينهم”، وتنتشله عناية ربه كما في البئر، من غياهب السجن وتنصّبه على خزائن مصر. في وقت قصير أصبح المسؤول عن خزائن البلاد، وهو الآن بمثابة وزير المالية في دولةٍ عظيمة. ويحق الله الحق بكلماته، وتبوء النسوة بذنبهن ويبرء يوسُف لنفسه وعرضه ثم ينسب الفضل لربه ويحمده عليه ويسأله حُسن الختام: (۞ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

أضف تعليق