
أجلس يا ولد.. صاح المعلّم رافعاً صوته وملوّحا بالعصا.
أنا رجال يا استاذ.. رد عبيد المراهق بصوتٍ جهوريّ!
لم تعد تخيفه العصا، ولم يضطرب لصراخ المعلّم قلبه، وكأن شعرات شاربه ودقنه اللاتي برزن مؤخراّ كانت بمثابة الوتد في ريح عاصف. استقر بجسده فوق ظهري الأحدب. لقد رافقته خلال الأعوام الثلاثة الماضية وشهدت تضخّم أعضائه وثخونة صوته. حتى تصرّفاته الطفولية اللينة، راحت تقسو شيئا فشيئا حتى صارت كهذه الأخشاب التي تجعل من الكرسيّ شيئاً صلبا وعمليّا. ظهره اشتد وأطرافه اخشوشنت ومزاجه متقلّب بين براءة الأطفال وواقعية الرجال.
يا عبيد ستكون أنت عريف الفصل بدايةً من اليوم. سجّل أسماء المشاغبين على السبّورة، وسينالون العقاب. قالها المعلّم وهو يلملم دفاتره ويهمّ بالخروج. وما أن خرج المعلم حتى أشار إليهم عبيداً بلسانه: أن اسرحوا وامرحوا فلن أسجل الأسماء ولن أشيَ بكم. الوشاية بالآخرين ليست من فعل الرجال، هكذا كان يفكّر.. تشابكت الأيدي والأصوات وتحوّل الفصل إلى معركةٍ كلامية كبيرة ومعارك جسدية متفرقة.
مضت الخمس دقائق بسرعة البرق وعاد النظام والهدوء إلى الفصل بدخول أستاذ الأحياء. كان يحمل بيده مجسّم إنسان. وضعه على الطاولة والأعين تراقبه والهمسات لا تكاد تنقطع بين الطلاب. ضحكات يدفعها الخجل وأُخر باعثها الانحراف. قال الأستاذ: سندرس اليوم أعضاء الإنسان التناسلية، ولا حياء في العلمِ كما تعلمون. ضج الفصل بالضحك الهستيري.. وتناجى الطلاب فيما بينهم بكلمات اشتبكت ببعضها البعض فغابت عن وعي الأستاذ وفهمه. استفسر عن سبب الضحك هذا فلم يجرؤ أحدهم على إجابته. ظل الصمت مهيمنًا والأعين يملؤها الفضول.
هل سندرس الأعضاء التناسلية لكلا الجنسين يا أستاذ، قالها عبيد. وانخرط الفصل في ضحك عريض.. فكان كأنه تحدث بلسان الجميع.
نعم، سندرس كلا الجنسين، ولا حياء في العلم. أنتم الآن رجال وتستحقون معرفة هذه الأشياء. عما قريب سيكون لكم زوجات وأطفال، فلا بد من معرفة هذه الأمور معرفةً جيدة. افتحوا الكُتب على درس اليوم.
راحت الأيدي تتهافت على الصفحات تقلّبها بحثاً عن درس اليوم وتفاجأ الجميع أن الكتاب يحمل في طيّاته معلومات ورسومات دقيقة عن هذه الأعضاء، وشعر معظم الطُلاب بالحرجِ والدهشة. كيف للمدرسة التي هي عنوان الأدب ورائده أن تحدّثهم عن هذا الأمر وتشرحه وتفصّل فيه. هذا أمر نهى الشرعُ عنه والعُرف -كما يفهمون- والآباء والأمهات يشددون عليه وقد يُقذف المستفتي عنه بالحجارة.
المعلم أتى من مدينة بعيدة وغاب عن عقله وتفكيره هذه النظرة المتشددة تجاه أعضاء الإنسان الحسّاسة. المُدن أكثر حريّة وانفتاحًا من هذه القُرى المترامية، والتي يرسم فيها الآباء دائرةً من الأعراف لا يخرج عنها إلا زنديق يجب طرده أو تأديبه. و لما هاج الفصل وماج، أعاد عليهم مقولته التي لم يبرح يكررها منذ الصباح “لاحياء في العلم أيها الطلاب الأعزاء”..
أي علم هذا؟ تحدثنا عن المنطقة الحساسة وتقول علمًا؟ هل جُننت يا أستاذ؟ – صوت عبيد النشاز-
يا عبيد يا ولدي العلم لم يقتصر على القراءةِ والحِساب، العلم هو آلة يستخدمها الإنسان للتعرّف على الأشياء والتعاطي معها. ماذا لو أُصبت بمرض في المنطقة الحسّاسة، ألا تحب أن تجد طبيبًا ماهرًا يصف لك دواءً مناسبًا؟
عبيد: تفاءل بالخير يا أستاذ، هذه فرضية خاطئة، الدين يقول تفاءلوا بالخير تجدوه، لا بالمرض. وهز الطلاب رؤوسهم معلنين الموافقة والتأييد التام.
شعرت وأنا الجماد بـ لا أدريّته تجاه أعضائه. هو والآخرون لا يزالون في منطقة ضبابية بين الطفولة حيث لا معنى للأعضاء، والبلوغ حيث الأعضاء تعني الكثير بدايةً من العضلات وفتل الشنبات إلى هذه الأعضاء الحسّاسة التي يتفاخر بعضهم بها على بعض، من رجال ونساء. فالأنثى ما أن تبلغ عمراً معيّناً حتى تبرز أعضاءها فـ تخجل وتشدد عليهن بالغطاء واللباس ثم لما يكمل نموّها وينضبط، تبديه وتفاخر فيه. أما الذكور ما أن يبلغ أحدهم الحُلم حتى يلاحظ انتفاخ خشمه وتمدد عظامه وعضلاته، وحينها يفتعل الأسباب لإبرازها والتفاخر بها. بينما الآن في عُمر المراهقة، هم لا يشعرون بهذا التمدد في الأجساد ولا يفهمون اهتمام الإنسان بالجسد وأعضائه. هم مثلي يرون أنهم كلّ لا يتجزّأ. أنا لا أستطيع الانفصال عن كوني كرسيّا حتى مع سابق علمي أني كنت جذعًا في شجرة ما، في دولة ما، قطعها الإنسان بفأسه ورسم ملامحها بمنشاره ثم اتخذها آلةً للجلوس. أنا آلة صلبة تُتخذ للجلوس، هذا ما أنا عليه الآن وما سأشعر به دائمًا. وأنت يا عبيد تعرف يقينا أنك إنسان ولا شيء غير ذلك. إنسان بكامل أعضائه وتفاصيله، ولا شيء منك ينفك عن شيء، أنت كلٌّ لا تتجزّأ. أشعر بك ياصديقي.
لستَ مُلامًا يا عبيد. فهذا الذي يريدونك تتحدث عنه بلا حرج هو أمرٌ قد جُبلت على المحافظة على سريّته وإخفائه. والناس من حولك يحيّون فيك هذا الحياء ويتوقّعون منك الستر والتوريه. ثم في لحظةٍ ما، يكشفون الستر ويقولون هذا علم، ولا حياء في الدين. خسئت أيها المعلم يا ابن المدينة. نحن هنا في القريةِ نشبه الشجر والحجر، نحن كلٌّ لا يتجزّأ..
استمر المعلّم في المحاجّةِ وتقريب وجهات النظر مستفسراً بمكرٍ ودهاء: ماذا لو تزوّجت يا عُبيد قريبًا فكيف بك وأنت لا تعرف عن هذا الأمر شيئًا. سينال منك لسان القبيلة وتسقط من عينها؟
قالها متهكّمًا فنالت من عبيدٍ ضحكات الطلاب ونظراتهم، لكنه تصدى للموقف:
نحن نكتشف الأشياء ونتعاطى معها، لا نقرأها ونشرّحها ونغتصب خصوصيتها يا أستاذ. لم يحتج أبوك لمعرفةٍ كهذه حتى يكون له من الولد ما شاء الله. مثلما لم احتج أنا لمعرفة الشجرة التي انتزع منها كرسيي هذا، ولا ذلك المصنع الذي اكتمل فيه تهذبيه وتصميمه لكي اكتشف لماذا صُنع وفي ماذا يُستخدم.
سَعدت بإشارته إليّ، فهذه هي المرة الأولى التي يشير عبيدٌ إلي منذ أن التصق ظهره بظهري. ياله من مراهق. لطالما شكّكت في دعوى المراهقة هذه من بعدك يا عُبيد. أليست المراهقة أمرًا يشبه الحريّة في تعريفه الذي يختلف باختلاف الأعرافِ والأشخاص، ويشبه الهواء في طبيعته الذي نشعر به ويستحيل أن نضع أيدينا عليه؟ ماهذه المراهقة؟ أليست دخيلةً علينا نحن معشر الشرقيين؟
بحسب خبرتي الطويلة في بطون الفصول وأسورِة المدارس، كانت مرحلة الطفولة تنتهي بانتهاء مرحلة المتوسّطة، يرمي بها الطالب مع كُتب المتوسّطة في القمامة. ثم يستقبل الفيزياء والكيمياء والشعر قد انتشر في وجهه والمسؤولية قد امتطى ظهرها. مؤتمنٌ على البيت في غياب والديه، ومستقبلٌ الضيوف ومودعٌ إياهم.. يشبه والديه من كل اتجاه، فهو رجلٌ بين الرجال، وهي امرأة بين النساء. يقود هو السيارة وتُعد هي الطعام لأخوتها، ويسير البيت مستقرّا حتى في غياب أحد الوالدين أو كلاهما. يحدث هذا الانتقال بهدوء وسهولةٍ بفضل التحضير الجيد لهذه المرحلة من الوالدين، فالولد يشارك أباه تفاصيل حياته، والفتاة تفعل الشيء ذاته مع أمها. فيجيء الولد نسخة عن أبيه، وتأتي البنت نسخةً عن أمها.. ويجب أن أُصادق على وصف الدكتور روبرت إبستين مؤلف كتاب دعوى المراهقة حين وصف المشكلة بهذه الكلمات “يعيش مراهقو هذا الزمن في مجتمعِ أقرانهمِ التافِه، حيث يتعلمون من بعضهم البعض كلَّ أمور حياتهم بدلًا من أن يتعلموها من أشخاص سبقوهم في تجارب الحياة. ولا يوجد استغراب إذًا عندما يتصرف المراهقون بطيش وعدم مسؤولية، فهم يعيشون بمعزل عن البالغين ويُعامَلون كالأطفال!”
وفي خضم النقاش الحاد، طُرق الباب وإذا به مدير المدرسة تبسّم وأعلن اعتذاره عن المقاطعة ثم قال: نستأذنك يا أستاذ، عبيد يجب أن يخرج مع والده، لديهما أمر طارئ وهو في حاجةٍ إليه.
حزَم عبيد أشياءه وطار..
