ســارّه

لم يكن لها من اسمها نصيب، بل لم يكن لها من الحياة نصيب.. وهي التي تعيش صراعاً مع أحزانها بينما الناس من حولها فيما بينهم يتصارعون. ملطّخة أكفّ الزمان بدمعها الذي تجففه إشراقة الشمس كل صباح وما أن يلف الأرض الظلام حتى يبتل كل شيء حولها بدمعها الحار. تبكي نفسها وتندب حظّها وتهمهم بين حين وآخر بقلب المؤمن الصابر “اللهم لا اعتراض”. ولطالما دعت بدعاء أيوب عليه السلام (ربّ إني مسّني الضّرُ وأنت أرحم الراحمين).. ولطالما تلهّفت لذلك الصوت الذي يقول لها اركضي برجلكِ هذا مغتسل باردٌ وشراب.

بِكرُ أبويها والآمال كانت معقودةً فيها منذ الولادة. ففي زمنٍ مضى، يتحمّل بكر العائلة المسؤولية منذ المراهقة، بل ربما منذ أن يُمسك القلم. هي لم تُمسك القلم أولاً، بل أمسكت بزمام المطبخ وشاطرت أمها همّه وأشغاله التي لا تنتهي. قررت وهي في الخامسة من عمرها دخول المطبخ حاملةً نفسها على أن تكون ذات فائدة. ولأنها لا تزال صغيرةً وقصيرة، قلبت أحد قدور الطبخ ووقفت عليه لكي تبلُغ حنفيّة الماء وتغسل الصحون. حملت على عاتقها الطريّ مسؤولية التنظيف وراحت بقلبها الكبير توزع حنانها على أخواتها الصغار وترعاهم في غياب أمها عن المنزل. ثم بعد عامٍ واحدٍ ارتادت المدرسة وكانت فيها متفوّقة دراسيّا ومحبّةً للعلم والأدب. وجدت في ثنايا الصفوف المدرسيّة مالم تجده في البيت، وجدت الصويحبات والمعلّمات واللعب والحكايات. ثم ما لبثت ألسن الجهلةِ من كبارِ السنّ تطارد براءتها حتى قضت على أحلامها وانتزعتها من حضن المدرسة وحكمت عليها بالبقاء داخل أسوار البيت. وكان عنوان تلك المرحلة أن “المرأة ليس لها إلا بيت أهلها وزوجها”. رضت بنصيبها من الحرمان، وراحت تقضي وقتها أسيرةً لنظرةٍ قاصرةٍ اطفأت بصيصاً من نورٍ كانت تقتبس منه. وماهي إلا سنوات قليلة حتى انقضت تلك الحقبة المريرة وجاز لكل البنات أن يرتدن المدرسة بلا تحفّظ، فارتادت أخواتها الصغيرات المدرسة بينما فاتها هي قطار التعليم بلا ذنبٍ منها ولا تقصير. واستمرت تمدّ الآخرين بعطائها، وتلف البيت بحنانها، وصارت لأخواتها وإخوانها أمٌ ثانية.

هي الآن في العشرينات من عمرها حين جاءها أبوها يزفّ خبر زواجها من فلانٍ من الناس، وأن موعد الزواج سيكون في اليوم الفلاني. من فلان هذا؟ لا تدري، لماذا اختارها هي؟ لا تدري، هل الرفض خياراً متاحاً؟ لا تدري. حاولت أن تتخذ موقفاً تجاه هذا الزوج وهذا الزواج ولكنها لم تجد ما يخوّلها لإبداء الرفض أو الموافقة. ظلّت حائرة، فكيف لها أن تقرر وهي تجهل كل ما يتّصل بهذا الغريب. رجلٌ غريب، من قومٍ غرباء، ويسكن مدينةً بعيدة. لا يحمل هاتفا ذكيا كما هو حال الناس الآن، وليس له عنوانٌ بريدي أو حساب على منصات التواصل. رجل فحسب. آمنت برأي أبيها واختياره، وتم الزواج وانتقلت إلى بيت زوجها وهي وجلةٌ وحذِره.  فما أن انقضت بضعة أيامٍ حتى بان له أمره وانكشف ماكانت تستره الأسوار والثياب. كان رجلاً عاديّا وأقل من عاديّ، فصبرت على عاديّته، وكان رجلا بخيلا، فالتمست له العذر بقلّة ذات اليد. ولا تزال تحيطه بمزيد رعاية هو ووالديه، حتى مضت السنون ولم يُسفر هذا الزواج عن شيء إلا مزيداً من الصبرِ وضيقِ ذات اليد. فانفصلت عنه برغبةٍ منها وراحت تطوي هذه الصفحة من حياتها وهي غير نادمةٍ ولا آسفة.

كانت تظنّ الحُزن مصدره هذه العلاقة الغريبة وأن المرأة تُبتلى بالحزن والهوان بقدر ابتعادها عن أهلها وذويها، فما أن قطّعت أوصالا كانت تربطها بهذه العلاقة الغريبة وعادت لحضن البيت والعائلة، حتى ظنّت أنها ودّعت الحزن إلى الأبد وأنها عنه في حصن منيع. وهذا ما صادقت عليه أيامها الأولى، فبعودتها عادت إلى طبعها وخفّتها ونشاطها وراحت تقضي أيامها وادعةً ومطمئنةً وسعيدة. لم تعد تبكي كما كانت، ولم تقاسِ الوحدة والملل، ولم يأن ظهرها من التعب مع نهاية كل يوم. هي الآن سعيدة مجدداً بين أهلها وذويها.

فما أن مر عامٌ أو شبه عام حتى أعاد عليها الحزنُ كرّته وباغتها بهجمةٍ شرسةٍ وقاتلة حين نزل على صدرها نزول الصاعقة بسرعةٍ وقوة شديدتين. في عامٍ واحدٍ نُعيَ إليها أخوها ثم أبوها، وكلاهما مات فجأةً وبلا سابق إنذار. كان ذلك عام الحزن بلا شك، بل هو الحزن كله متشكّلا في عامٍ واحد. تدثرت بثيابٍ سوداء وأخذ الحزن عليها دورته حتى اسودّت محاجرها من البكاء. وبحكم طبيعة الإنسان ومن رحمة الله به أنه ينسى أو يتناسى وإلا فكيف تستقيم الحياة بمن نزلت به مصيبة كهذه؟ دمدت دمعها الحار بطرف ثوبها الأسود ثم مضت تواجه الحياة بكل شجاعة. فماذا ستخسر أكثر مما خسِرت؟ في ذلك الوقت ظنّت أن الحزن قد أظهر لها كل قوّته وحشد عليها كل أعوانه وأن لا شيء آخر في جعبته. هذه أقصى قدراته وأبعد امكاناته. اطمئنّت وشيئا فشيئا تشجّعت وهشّت تلك السحابة السوداء بما فيها من دموعٍ حارةٍ وألم شديد عن سمائها وراحت تنشد سعة الحياة.

ودارت دورة الأيام ثم أشرقت شمس أيامها بزواجٍ جديد من رجلٍ رشيد. كان لها زوجًا وأبًا على حدٍ سواء. وتمخّض هذا الزواج الهادئ وأعطاها منه غلاما جميلا ملأ عليها الفضاء ونزع من صدرها الحزن وهطل عليها كالمطر. باردٌ وجميل. شغف قلبها حُبّا لأنه ابنها، ولأنه جاء كفارسٍ مدجج يطرد عن قلبها جيوش الحزنِ وقُطّاع الطريق. وقف بينها وبين الألم وحال بينها وبين الهم وأضاء لها العمر وضاعف لها الحب والبرّ. كانت قبله تعيش نصف حياة، وصارت به ومعه تُحب الحياااااااة.

فسبحان من يحيي العِظام وهي رميم ويحيي القلوب بعد أن كانت جحيم. انقلب أمرها من حزن ولوعة وحرمان، إلى فرح ونشوةٍ وأمان. وراحت السنوات يردف بعضها بعضها والأيام تنقضي بينما هي لا تزال منتشيةً بسعادةٍ لا حد لها ولا حصر. الكون كله لا يسعُها والعمر كله لا يكفيها. وهنا ظنّت مرةً أخرى أن ليس للحزن إلى قلبها من سبيل، فهي محتاطةٌ منه وقد بنت بينها وبينه أسوار عدّة، بينما كان يتربّص لها في منتصف الطريق. في طريقهم هي وزوجها وابنها إلى البيت عائدين من أحد الزيارات العائلية، وبينما كل شيء يسير بطريقةٍ هادئةٍ وجميلة. تلاعب هي طفلها وتحتضنه، وينظر إليهما هو بعين الأب الحنون والزوج المصون، إذ انحرفت السيارة عن الطريق واستقرّت خارجه بعد ان تقلّبت مابين الأرض والسماء أكثر من مرة. ثار الغبار وغابت صاحبتنا عن الوعي.

أين ولدي؟ أول كلمة قالتها الشفاة بعد غيبوبةٍ دامت بضع أسابيع. ارتبك الحاضرون وترددت الإجابة في حناجرهم. من يجرؤ أن يدفن سعادتها بكلماته؟ من يعزّيها ويلبسها ثياب الحِداد مرةً أخرى؟ من يتفوّه بتلك الكلمة التي ستختصر كل شيء.. وستنهي كل شيء.

ها قد قيلت تلك الكلمة، وعلمت أن ابنها قد مات وانها هي لن تستطيع المشي مجددا بعد اصابتها في العمود الفقري إصابةً بالغة. تماسكت قليلًا وشمّت يدها تبحث عن بقايا رائحته وتفقّدت ملابسها.. لا رائحة، كل شيء هنا بلا رائحة باستثناء رائحة المنظفات والأدوية. لا شيء بقي منه حتى رائحته؟ لن أراه مجدداً؟ لن يضحك لي ويداعبني؟ لن استيقظ على صوته؟ لن يناديني ولن أناديه؟ حين استجمعت نفسها واستدركت حقيقة استحالة رؤيته ومداعبته، انهارت كالجبل الذي تفجّر في أسفله الديناميت. بكت بكاءً طويلاً وعريضا، ولا شيء يشبه هذا النوع من البُكاء. حتى بكاء الوالدين لا يشبه هذا البُكاء. فحين يتكلّف الإنسان حُب والديه أحيانا، حب الولد أمرٌ فُطريّ وعميق، وهذا أيضا من رحمة الله بالإنسان أن أودع هذا الحب وهذه الرحمة في قلب والديه عليه حتى يكفل له التربية والرعاية. والقرآن أمر الولد بـ برّ والديه ولم يأمر الوالدين بـحب أولادهم وبرّهم لأنه أمرٌ مفروغٌ منه كما قال سبحانه (المال والبنون زينةُ الحياة الدنيا).

ولا أظن بشراً يمكنه تخيّل حجم الألم الذي انتفخ به قلبها في تلك اللحظة، ولكن من رحمة الله بالإنسان أن لطفه ورحماته تتنزل على عباده المؤمنين مع البلايا جنبًا إلى جنب. فهاهي الآن هادئة وصامتة. تتفكر في حكمة الله وفي اختياره وتتذكر أن الخيرةَ فيما اختاره الله وأن الأمر كله لله. وما أن يخلو المكان من الناس حتى ينساب دمع عينها ويتساقط في حِجرها بانتظام. لا تستطيع ردّه ولا تسعى إلى ذلك. نحيب مستمرٌ وطووووويل وحسرةٌ مالها من مثيل.

**

أعلمُ أنه قد مر زمنٌ طويل على هذه الحادثة والنسيان والتناسي هذه المرةِ ليس خياراً متاحاً. عند الله السلوان يا صاحبة. يبشّر رسوله الصادق الأمين صل الله عليه وسلم أولئك الذين أصابهم البلاء وصبروا بهذه البشارات:

عن جابر رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ). فأبشري بما أعده الله للصابرين والصابرات واعلمي أن هذه الدنيا ليست بشيء وأن الآخرةَ خيرٌ وأبقى.

أضف تعليق