منديل:

أصبحنا وأصبح الملك لله.. نهض صاحبنا وتحسس الرخام البارد بباطن قدميه وهو لا يزال يجلس على حافة السرير ونور الشمس يتسلل برفقٍ من فتحة المكيف.. برغم تحفّظه على ضوء الشمس هذا إلا أنه لم ينزعج لهذا التسلل الرقيق بل كان يتوقّعه. وعاد بالذاكرة إلى حيث كانت زوجته تسميت لاقناعه باستبدال مكيف الشباك بمكيفٍ عصريّ يعمل بالريموت، وهو يحب هدير هذا المكيف وضجيجه الذي تستقيظ منه الأشياء وينام هو. ويعجبه من هذا المكيف أنه يسرق النوم من عيون الأشياء ويهديه له.. لا أحد يفهم هذه العلاقة باستثنائه هو ولا يحب الحديث عن هذه العلاقة لكثرة ما كررها حتى سئم من ذلك الآخرون.

امتدت يده لهاتفه، الساعة الآن التاسعة صباحاً، واليوم هو يوم الأربعاء. بقي يوم واحد على عطلة نهاية الأسبوع. شيءٌ ما يدعوه للفرح، “الويكند على الأبواب”، ومباراة فريقه المفضل ستُلعب خلال هذه العطلة، وأصدقاؤه سيقيمون عشاءً بمناسبة تخرج أحدهم بدرجة الماجستير.. كل ذلك سيحدث خلال الأيام القليلة القادمة، وكل ذلك يدعو للبِشر والفأل.

إلا أن طيف زوجته حين مر به سريعاً آلمه، واسترجع معه تلك المشاحنات التي يتراكم بعضها فوق بعض مع مرور الأيام. هش ذلك الطيف عن خياله واستقام واقفا، ثم تحرك بسرعةٍ معتادة ينهي استعداداته لبداية يومٍ جديد.. بعد ثلاثون دقيقة وجد نفسه يقف بسيارته في زحام عريض. ازدحام معتاد في الطرق الرئيسية، وعند البوفيات، وحول نافذة قهوة دانكن مشروبه المفضل.

أدار المذياع وتركه يحدّثه عن أهم الأخبار وأبرز الأحداث بوتيرة متسارعة، وبين حين وآخر يخترق تلك الجدية في الحديث موسيقى صباحية هادئةٍ يصاحبها صوت فنانٍ يجهله في كثير من الأحيان، ولكنه لا يهتم.. ترك الصوت يمر أذنيه مروراً ناعماً بينما عقله يخوض حرباً في مكان آخر.. عقله يجرّه إلى الماض البعيد.. كان يفكر بزوجته التي أصرّت على أن يفترقا.. وكان لها ذلك.

كان يعيش تضارباً بين كرامته التي أنِفت من طلب السماح وإبداء رغبةٍ جديّة في التوصل لحل يضمن بقاءهما معاً، وبين حاله البائس الآن ومآلات العِناد وضريبة الكرامة بعد انفصالها عنه. كان يحبّها ويعلم أنه لو حدثّها عن هذا الحب واستعطفها قليلاً لـ لانت له وعزفت عن رأيها واستمرا معا.. لكنه لم يفعل!. وهو الآن يعود بذاكرته لتلك الأيام التي كان يقلب فيها رأيه ثم استقر على أن يحقق رغبةً لم تكن أصيلة في نفس زوجته بل كانت مجرد تصرفٍ إنفعاليّ وثورةٍ في وجه تقصيره. ورغم حبه لها ورغم علمه المسبق بما تكن له هي من مشاعر جميلة إلا أنه رمى المنديل وتركها تذهب.

استدرك ودبّ فيه لحظته الوعي وإذ بيده تضغط بقوةٍ على المقود. استعاد وعيه باللحظة الراهنة وراح يرخي أوتار يده ويهدئ من روعها. لا تزال في الحياة فُسحة وأمل كبير. قال ذلك لنفسه حين انساب كالنسيم العليل بباله طيف زميلته التي تجلس عن يساره. تلك الفاتنة، كيف لها أن تجلس بجانب شخص مثله. ملأه البِشر حين أُختير لها مكتب ملاصق لمكتبه لا يفصل بينهما إلا الهواء البارد النازل من سقف المكان.

يطوف به عطرها في أرجاء المكان تماما كما ينتشر في أرجاء المكان لحظة دخولها. عطرها الذي يسبقها إليه هو البشير و النذير. فـ به يستبشر بقدومها ويمنّي نفسه بمحادثات جانبيةٍ يتبادلونها بعيدة كل البُعد عن العمل وروتينه، وهو نذير يهزّ كتفيه ويقول له بأن هذه السعادة مؤقتة، فـ لطالما رمقهما المدير بنظرةٍ لا تنم عن رضى بتلك الأحاديث الجانبية ولربّما فكّر في نقلها بعيداً عنه، هكذا كان يفكّر. هذا الهاجس يخيفه كثيراً، فهو من الحياءِ بمكانٍ لا يسمح له بالتنقل بين مكاتب الفتيات والتحدث إليهن في الممرات كما يفعل الآخرون. فبنقل أحدهما من مكتبه، ستنتهي هذه الحقبة الورديّة بلا شك..

وهذا ما لم يحدث، بل جلوسها بجانبه طال واستمر وكأن عين الكون غفلت عنهما وتركتهما يتبادلان الوِدّ بل تركته يبذل إليها وِدّه بتحفظ وهي لا تنقم عليه بشيء. وبمرور الأيام تضخّم الأمل في صدره وظنّ أن الحياة مُكافأةً إياه عن صبره على طليقته و هذه الوحدةِ المملة التي يعيشها بـ أيام حلوةٍ و معسولة. وامتد اعتناؤه بمظهره وشكله إلى سيارته وأثاث بيته فيما كان قبل ذلك يهمل كل مالا يتصل بجسده كل الإهمال.

غرس شجيراتٍ عند باب البيت وراح يغني لهن بينما ينثر على جذوعها الماء، وزيّن زوايا الغُرف بـ أبجوراتٍ ذات ألوان، ونفض عن الأثاث غُبار الملل والسكون، واستأجر عاملاً يمسح الغبار عن سيارته في الأسبوع عدة مرات، واشترى ملابس جديدة وعطراً فوّاحاً لعله يجد إلى أنفها سبيلا محمودا.. وأكثر على نفسه وبالغ واستنفر حتى لمسِ منه ذلك البعيد والقريب، وراحت أحاديث زملائه تدور في فلكهِ وتلميحاتهم تطاله وهو غير مبالٍ ولا مكترث. كان يسبح في فلكها ويستغني بحديثها المعسولِ عن كل حديث.

وراح يرضى منها خُلُقا لا يرضاه من غيرها، ويمدّ لها من الأعذارِ مدّا ويغض عما لا يعجبه منها طرفي قلبه ولسانِه. وكيف لا يعجبه أمرٌ قد صدر منها؟ هي الآن في نفسه كالدستور الذي تُقاس كل الأشياء إليه. هي المشرّع والحَكم وماعليه هو إلا أن ينفذ أمرها إنفاذاً لا تردد فيه ولا هوادة. فبينما كانت هي ماضيةُ على سجيّتها كان هو يوجّه بوصلته على أثرها. فشتان بين الوجهةِ والإتجاه.. كانت هي الوجهة وكان هو كل اتجاهٍ يقود لتلكما الوجهة.

وفي ذات صباحٍ بينما كان يفضي أحدهما إلى الآخر بجميل الحديث استنبأها عن مواصفات رجل أحلامها؟ وقد راقها سؤاله حتى كأنه دخل من أذن ولم يخرج من الأخرى، بل استقر هنالك وراحت هي بعاطفتها تُكبره وتعتني به. ثم لما استقر السؤال في نفسها، راحت تثقل مسامع صاحبنا بصفاتٍ عظيمة يستحيل أن تجتمع في رجل واحدٍ فما بالك به هو. الرياضيّ الوسيم ، الكريم الحليم، الثري، الوفي، حر التفكير ومختلف عن الغير.. ذلك الذي ينتزعها انتزاعاً من كل الطامعين والحالمين.. ثم ختمت قائلةً: أريد من قصة زواجي أن تكون ملحميّة، لا خطبة ثم ملكة ثم فرحاً. لا لا أريدها شد وجذب، كر وفر، وتناطح بين الخاطبين كتناطح الثيران، وهنيئاً لمن أكون أنا حظه وجائزته.

تناطح الثيران؟ هجم عليه طيف زوجته حينها وتذكر المنديل. لقد حدثها عن قصة انفصاله عن زوجته واستغرق في تصوير أنفتهِ وأهميّة كبريائه، هذان هما الخطّان الأحمرانِ في سلمِه وعُرفه. بل هما نقطةِ ضعفهِ. ولكنه قال في نفسه، لا بأس فالجائزة تستحق التناطح.. هذه الفاتنة لا يجب أن يفوز بها غيري!

وبينما الحديث بينهما يمتد ويتسع كانت مبادؤه وخطوطه الحمراء تتلاشى أمام أفكارها ومعتقداتها وأسلوب حياتها.. كل معتقداته الصلبة ذابت في خجل وكل مُثُله العليا انهارت انهيار الماء من على جبل. واستمر يخضع لها بالقول ويؤثرها على نفسه ومبادئِه ومعتقداته، وهي بمعول الحرية والحداثة والتمدّن راحت تهدم كِبار أصنامه وتزدري صغارها. وهو يقف منها موقف الإعجاب حيناً والتغافل في كثير من الأحيان.. فليس يعجبه عقلها ولا طبعها، بل فتنته العينين الغائرتين والشفتين البارزتين. أسرهُ شكلها فاستأسر لعقلها وطبعها ونظام حياتها.

**

وفي أحد مساءات الشتاء الباردة، بينما كان آمناً في سربه إذ جاءه اتصال من رقم يجهله، لم يتردد في الإجابة واذا به رجل غريب.

أنت فلان، قال صاحبنا نعم.. لعله خير ماذا تريد؟

قال: أنا خطيب فلانة “زميلته” وبإصرار وحرصٍ منها أتشرف بدعوتك لحفل زواجنا في اليوم الفلاني.

لا أظنه يذكر تتمة الحديث ولا أظنه يهتم. فبإنقضاء تلك المكالمة، انتهت اشياء كثيرة وتبددت كل الأحلام. اشتد غضبه وأحس بمرارة الخيانة وقسوتها. لكن أين هو من الخيانة؟ أليست تدعوه لحفل زواجها وكأنها تقول له لقد وجدته. وجدت ذلك الذي حدثتك عنه؟

استدرك حينها ثم ضحك ضحكةً كأنه يهزأ بها من نفسه. ثم لاح له طيف طليقته مجدداً ولكنه لم يتألم هذه المرة، بل ابتسم وظل مبتسما بينما كان يفتش عن صورها ويقرأ محادثاتها في هاتفه.

أضف تعليق