
الوقوف على الأبواب أمرٌ لا يتقنه الحُرّ وتحمرّ أذناه خجلاً لرؤيةِ إنسانٍ يقف بـ باب إنسانٍ آخر.. هذا في الوقوف على الأبواب، وأعز من ذلك وأشهم قول المتبني في الرحيل:
إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا .. أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ
يعزّي أبو تمام من ضاق بهم صدر أو أنكرتهم أرض وهمّوا بالرحيل بهذا البيت، وهذه العقلية الشامخة.. أن ترحل بينما يُعزى الرحيل لأولئك الذين تركوك ترحل.. تركهم هذا أفقدهم المكان وأعطاك الأفضلية.. يالها من عزّةٍ ويالها من تعزية..
فكيف يا تُرى كان سيهجو أبو تمامٍ شباباً يستجدون الإعجاب والإشتراك بمنشوراتهم على الانترنت؟ كيف كان سيصف الانترنت برمّته؟ هل كان سيراه سلاحاً عابراَ للقارات؟ أم وباءً على الأبناء والآباء والأمهات؟
**
قبل مجيء الإسلام كانت علوم العرب مدارها على ثلاثة مجالاتٍ، وكانت منهم بمنزلة العقيدة التي يدينون بها ويتوارثونها جيلاً عن جيل. الفصاحة والأخلاق والشعر. هذا المثلث العقدي الذي يرتكزون عليه ويذودون عنه بكل قواهم.
فإذا نزل أحدهم بأرض أو دخل بامرأةٍ احتاط لنسبه ولسانه، ثم إذا وُلد له ولدٌ أرسله إلى البادية لو اضطُر طلباً لاستقامة ألفاظه، ثم إذا شب بين ظهرانيهم تخلّق بأخلاقهم وسار سيرهم وحفِظ أمثالهم وامتثل لها، وإن لم يكن شاعراً، حفِظ الشعر ووظفه لتجويد خطابه والإبانة عن نفسه. وهكذا كانت رحاهم تدور حول الفصاحة وكريم الأخلاق حتى جاءتهم الرسالة معجزةً فصاحتهم ومتممةً مكارم الأخلاق فيهم.
كان لهم معرفة بعلوم أخرى كالتنجيم حتى قالت أحدى نسائهم “أيجهل أحد خرزات معلقةٍ في سقفه؟” لشدة حذقهم بهذا العلمِ، وكان لهم معرفة بشيء من الكهانةِ والطب. فلا يطمع أحدهم بأن يُكشف له الغيب بقدر ما يطمع بفصاحة اللسان وسحر البيان.
كانت الفصاحة فيهم سجيّةً والشعر دليلها وبدرجةٍ أقل تأتي الخطابة، والمعلّقات أجلى دليلٍ على أهمية الشعر، وخُطب قس بن ساعدة ومواعظه وغيره من خطباء الجاهلية تأتي ثانيا بعد تلك المعلقات.
**
قديما كانت تُولم القبيلة لثلاث أيامٍ إذا بزغ فيهم شاعر، ونحتفي نحنُ بعيد الميلاد وتوثيق الحساب على مواقع التواصل الإجتماعي.
باللغة امتازوا على شعوب الأرض واستحقّوا حمل الرسالة الخاتمة، وبالمال والسطحيّةِ والمظاهريّةِ عُرفنا نحن فازدرتنا شعوب الأرض.
بعاملٍ أساسيّ واحدٍ استطاعوا أن يكوّنوا حضارة، وبكل العوامل الممكنة والمتاحةِ لدينا لم نستطع أن نصنع سيارة.
**
يُروى أن ملك الحيرة عمرو بن المنذر قال ذات يومٍ لجلسائه، هل تعلمون أن أحداً من مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي؟
فقالوا لا، ما خلا عمرو بن كلثوم يأنف ذلك.
فقال: فلم ذلك؟
قالوا: لأن أمه ليلى بنت المهلهل عدي بن ربيعة شاعر العرب، وعمها كليبٌ ملك العرب، وزوجها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وإبنها عمرو بن كلثوم سيد وأعز العرب.
فحدث أن دعا الملك عمرو بن كلثوم وأمه إلى مائدة، ومما دار بين النساء أن أم الملك طلبت من ليلى بنت المهلهل أن تناولها طبقاً فأبت. قالت لتقم صاحبة الحاجةِ إلى حاجتها، واشتد الخلاف حتى صاحت ليلى بنت المهلهل قائلةً: واذلّاه، يالتغلب!!!
فقام ابنها واستل سيف الملك وقتله به استجابةً لصرخة أمه.
تلك والله هي الأنفة، وهؤلاء والله هم العرب.
