ماكِر

أحور العين، سيّء الطالع، نذير شؤمٍ وعلامة حسد كأنه النار تحرقُ كل شيءٍ أتت عليه.

ينبّش عن الأخبارِ تنبيش المشرّد عن القوتِ في أماكن المخلّفات، ويشتهي الكذب شهوةَ الحبيب لعناقِ محبوبه، وينفر من الصدق نفور الحمارِ من قبضةِ الأسد. أي قلب مفعمٍ بالخسّةِ هذا الذي يحمل بين جنبيك؟ وأي ضمير هذا الذي إن لم يكن ميتا فهو مريض وعليل وهو عنه لاهٍ. وحين ينظر الناظر إلى مجموع أفعاله وأقواله، يأتيه قول الملائكة “أتجعل فيها من يفسد فيها” متشكلاً بأوضح صورةٍ وأصدقِ معنى.

الشر كل الشر في منطوقه، والمرارة كل المرارة في الاستماع لحديثه الذي له طعم العلقم ورائحة الدم، كأنه وهو يتحدث ينفخ في أذنيك كيراً وكأنك وأنت تخصّه بالنصيحةِ تجلد ميتاً وتظن أنك مؤلمه.

راحت طفولته ضحية إهمال والديه، فخرج للعالم مشوّها كأن في مشيه عرج وهو لا يعرج، وكأن في لسانه لثغةٌ وهو سليم. فما أن شبّ وطال عوده واستقام حتى مشى مشية الخيلاء وصار بعينه المنحرفةِ يبحث عن العيبةِ فينشرها، وتستفزه الفضيلة فيحتقرها ويقلل من شأنها. وهو بصفاته هذه أشبه بالدجال من حيث هو كاذبٌ محترف ومزيّف ومنحرف.

يكذب الكذبة ولا ينساها، حتى إن اشتد عليه الموقف راح يبررها بشكل من الأشكال، ويعززها على أيةِ حال. وهو وإن نظرت في مجموع صفاته وجدتها مشينةً في مجملها وأصل ذلك كله استحسانه الكذب واعتياده عليه. فهو يرى العالم بمنظارين، أحدهما لنفسه وهي رؤية الإنسان بعينه وحضوره بجسده، والأخرى للناس. وفي هذه الأخرى يشمّر عن ساعديه ويستطيب له التكثير والتبهير والتضليل. فتجده يختلق المواقف والأحداث، ويضفي على الحدث تفاصيل كثيرةٍ يضيع فيها السامع وهو بمكره ودهائِه يجرجر السامع من حيث لا يدري إلى حيث تنطلي عليه الكذبة ليستقر في نفس السامعِ أن هذا الرجل أكثر خبرةً منه، وأنه محل ثقةٍ وأهلٌ لأن يُنصت له وأن يُستشار.

وهو يحسن استدراج الآخر لمناطقه، فهو يكذب وينتظرك أن تبادله الكذب حتى ينقلب عليك ويثبت ضدك مالا تستطيع أن تثبته ضده. فتخرج من مجلسه وأنت محبط وكاذب وهو لا يزال على حالهِ. مستخفٍ عن الناس بستار النفاق والخسة ومن يبادله الصفات ذاتها لا يخرج منه إلا بالخيبة والحسرة. وأما أولئك الذين يعرفون حقيقته، فليس لهم نصيب من مجلسه إلا الغبنة وقلة الحيلة.

وليست لحكاية هذا الرجل من نهاية يُعتبر بها، فهو لا يزال ينتشر بين الناس كأنه أثير الأنترنت، ويدخل كل بيت من بابه العريض، ويمد سبل التواصل مع الجميع وكأنه مُبرءُ مما يقول ويفعل، ظنا منه أنه الماكر الذي لا يقتفى أثره ولن يُفشى سرّه. يتجمل بالماديات بين حين وآخر، ويزيد في كل مجلس يحضره زيادةً لا تبت للحقيقة بصلةٍ، ثم يشرب ويأكل ويلقي عليهم السلام مودّعا.. وهكذا هي حياته بين حيلة يحتالها وكذبةٍ يخترعها وهمساتٍ خبيثةٍ يدسها خلسةً في نفس هذا وذاك من أتباع الهوى وضِعاف النفوس.

والعبرة يا أصدقاء ليست مما يُكتشف في نهاية المطاف دائماً، وإنما العاقل من أبصر وأعتبر من سير الأحياء قبل الأموات، وممن هم في أوج القوة والفتوة قبل ممن أبان الدهر فيهم الميل والخلل. فانظر مثلاً في قصة قارون وستجد أن أولئك الذين امتدحهم القرآن هم الذين بانت لهم حقيقة قارون قبل أن يخسف به الله الأرض وسألوا الله العافية. أما أولئك الذين غرّهم مال قارون وزينته لولا أن تداركهم الله برحمته وإلا كان لهم مصيراً مشابها. قال تعالى في سورة القصص:

 (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)

فلا يغرّك أيها الإنسان كذب الكذابين وتدليس المدلّسين وامتداد حبل كذبهم وتدليسهم حتى تظن ألا سبيل لكشف هؤلاء وتعريتهم. ولا تستملح الكذبةِ الصغيرة أو البيضاء كما تُسمى في سبيل تلميع شخصك وتكثير محاسنك، فلم يزد الكاذب كذبه إلا خسارا.

واعلم أن الرجل لا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا..

وليكن فيك من نفسك لنفسك رادعاً يردعها، وزاجراً يزجرها، وناهياً ينهاها، ومؤدباً يؤدبها، ولا تتركها تميل مع كل ريح وتهيم في كل وادٍ وتخوض مع كل خائض..

أضف تعليق