
وضع على كتفيه ثوباً جديداً، وتبخّر وتعطّر، ثم مشى إلى مجلس الرجال بهدوء وتأخر.. تشير الساعة إلى العاشرة صباحاً. لا يهم، فهو أعظمهم شأنا وأكثرهم مالا كما يعرف الجميع. ابتدأهم بالسلام ثم استلم المجلس من يمينه، صافح الجميع، بارك لهم بالعيد، افسحوا له في وسط المجلس، جلس والتمّت من على الطاولات أطباق الحلوى واجتمعت على طاولته، ووقف على رأسه أحدهم يسقيه من القهوة، وبينما هو يرتشف من القهوة ويتخيّر بين حلويات العيد، استلم هاتفه، وراح يبارك بالعيد ويرد على التبريكات.
كان يفضّل “كل عام وأنت بخير”، و “عيدك مبارك” على “تقبّل الله طاعتك”.. شيءٌ ما يختل بداخله عند سماعه هذا النوع من المعايدات. ترفّ عينه لسماعها، يردّ عليها بـ “منا ومنك صالح الأعمال” بينما تضيق ابتسامةً اعتلت وجهه وهو يقولها، وتنقبض سعادةً كانت ترفرف داخل صدره في كل مرةٍ يضطر لإعادتها.
سالت دماء الأضحيات وثوبه ويديه منها نظيفة، فقد أوكل بهذه المهمة أحد الأقرباء. أرسل إليه المال واشترى راحة البال. نام حتى منتصف النهار، وتأخر بنومه الافطار.
ارتوى من القهوة واسند ظهره إلى الكنبة. تفحّص مرزام شماغه وهندامه، “تأخرت الكِبدة” قال معاتباً، فنهض أحد أبنائه وراح يستقصي أمرها، وما لبث القوم حتى سبقت رائحة الطعام السُفر، وتسللت رائحة الكبدة إلى بطونهم، وسال لعاب عملت الحلوى على تهدئته منذ صلاة العيد.
بينما كان يغمس صاحبنا الخبزة في صحن الكبدة إذ قال: العيد للأطفال، ونحن حظنا منه حر النّهار وتوزيع العيديات على الصغار. وأردف مقولته تلك بابتسامة عريضةٍ أعرض من يوم العيد.
انتهز الفرصة قريبه الذي يحسده على ما أوتي من مالٍ وجاه وقال: “ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب” ثم وضع لقمةً ضخمة داخل فمه، وشعر بسعادةٍ لو وُزّعت على من في الأرض لجعلت من عيدهم هذا عيداً سعيداً. اكمل عملية التغميس في الصحون وراح يتحاشى النظر في وجوه الآخرين.
أرسل صاحبنا بصره في وجوههم محاولا تقصي ردة الفعل عليها، لا يبدو أن أحداً يهتم، وغلب على ظنّه أنهم يخفون مالا يبدون ويتظاهرون رحمةً به وخوفاً من انفعاله. تلوّن وجهه، وراح يجاهد نفسه بإخفاء أثر ما حدث.
فتش في جعبته عن آية من الكتاب يرد بها على هذا المنافق، خانته الذاكرة، واستقر في نفسه أنه مقصّر في هذا الباب بل لا حظ له فيه، لكن ماذا عن بيت من الشعر؟ حتى الشعر لم يسعفه.. لا شيء يحضره. ارتبك، ونطفت على جبهته قطرات من العرق.. فألقى له شيطانه طوق نجاة، فقال: كلمة حق أريد بها باطل.. قالها وعينيه محدقةٌ بالرجل. كان يغلي من الداخل فنزلت عليه هذه العبارة كالماء البارد. بردت جوارحه، وهدأت نفسه، ومضغ اللقمة التي كانت عالقة في مدخل فمه بارتياح.
اصطف الاطفال عند مدخل المجلس منتظرين العيديات. كل منهم يأمل نفسه ب ورقة زرقاء من صاحبنا السخيّ، وبعضهم جهّز بيتا من الشعر يمتدحه فيه، والبعض لا يملك الا تأثير الابتسامة وبراءة الطفولة. متحمسين ومحلّقين حول مدخل المجلس كـ الحلقة. واستقر في قلوبهم أنه لن ينفذ من سلطانهم كما كان يفعل في بعض الأحيان.
وصاحبنا ظل مشغولاً بمقولة قريبه، وبلغ منه إبليس مبلغاً عظيما حتى همّ بأن يصبّ عليه غضبه ويطرده شر طرده. وكلما تذكر الآية، اتضح له مدى تقصيره، وكأنها إنما نزلت فيه هو بالذات. فهو بين معترف بذنبه وراجياً رحمة ربه، وبين مشمراً عن ساعديه ولاطماً وجه أخيه.
كتم غيضه ثم لما أراد الخروج وجد الأطفال حول الباب محلّقين ولسخائه منتظرين. ليس هذا وقتكم قالها في نفسه ثم لما أكثروا عليه صاح بهم والشرر من عينه يتطاير، فتبددت حلقةً أحكموها وتفرقوا من حوله كـ نفير الحجّاج.
عمّ الصمت مجلساً كانت الفرحة عنوانه، وتفرق رجاله وصبيانه، وكأن ذلك الرجل امتص فرحتهم واستأثر بها لنفسه.
