أبو مفلح

يستيقظ كل صباحٍ ويعيش داخل فقّاعةٍ من المشاهد والأحداث المألوفة طوال اليوم ثم يعود مثقلا بتلك المشاهد آخر الليل ليسلّم نفسه للمخدّة. كل شيء يراه ويسمعه ويشعر به يقع داخل حدود معرفته المسبقة، فهو يعرف كل البشر في قريته، انطلاقا من أسمائهم وأشكالهم وانتهاءً بشخصياتهم وهوياتهم، ويعرف البيوت والمعالم، ويعرف طبقات المجتمع ومنازلهم، ويعرف الهموم الكبار التي تساور قلوب أهل هذه القرية، ويعرف من سيتزوج ومن سيصاحب، ويعرف متى سيتخرج، ويعرف القبر الذي سيحتضن جسده. وهو بذلك يظن أنه لا يجهل إلا علم الغيب الذي أختص الله به نفسه كالرزق والأجل.

كل شيء في القرية يقع ضمن حدود معرفة الجميع، لا شيء يخفى على أحد. ولا جديد يمكن أن يُضاف إلى سجلات القرية أو يرفع من وعيهم بأنفسهم أو بالعالم الخارجي من حولهم. هم يعيشون داخل القرية ويجهلون كل ما هو خارج أسوارها، بل يكاد ينعدم الفضول عندهم في معرفة ما هو خارج أسوار القرية التي تقع في قلب الصحراء وبعيداً عن كل أسباب الحياة العصرية من جامعاتٍ وملتقياتٍ وأسواقٍ وأماكن ترفيهٍ وماشابه.

لم يتساءل يوماً لماذا اختار الأجداد هذه البقعة من الأرض وتقاتلوا عليها، ولم يتساءل يوماً لماذا لا يجرؤ أحدٌ  على تعلّم الجديد أو الأتيان بجديد، ولم يتساءل يوماً عن إحساسه بالأفضلية على كل سكان الكوكب والذي يكبر كل يوم بلا سبب يغذّيه، ولم يتساءل يوماً عن كميّة المعارف التي لديه وصحّتها وهل يجب أن يبحث عن المزيد، لم يتساءل يوماً لماذا تتكرر الأيام والمشاهد منذ زمن بعيد، ولم يتساءل يوماً لماذا لا يتساءل ولماذا يسلّم بكل ما سمِع وهو سعيد.

صاحبنا كان غلاماً يعيش ضمن عائلةٍ متوسّطة المكانةِ في القرية. يذهب إلى المدرسة صباحاً، ويردد معارف يتلقاها من غير تفكير، ويعود بعد انقضاء حصصه السبعة ليتناول طبقاً يشبه طبق الأمس، ثم يمارس لعب كرة القدم بعد العصر، ويتسكع على أرصفة القرية مع بعض غلمانها بين صلاة المغرب والعشاء، ثم يعود أدراجه ليتناول وجبة العشاء، ويخلد إلى النوم. في عطلات نهاية الأسبوع يُسمح له بالسهر حتى الثانية عشر مساءً، ولكن داخل أسوار البيت. في البيت هنالك تلفاز واحد، فيه قناة واحدة، تغلق أبوابها بتمام الساعة العاشرة. ليس ثمة برامج، وحتى مباريات الدوري لا تنقل على هذه القناة، فكان يتقصى أخبار المباريات عن طريق الراديو الذي يعلق بنهاية كل مباراةٍ نتيجتها. تغمره سعادة بالغة عند فوز فريقه، ولكنه لم يحلم يوما بمشاهدة هذا الفريق عن قرب. كل أمله كان ينصب على أن يستطيع تلفاز البيت أن ينقل الصوت والصورة من الملعب. وهذا مالم يحدث إلا بعد عقد من الزمان. ليس ثمة جرائد تنقل الأخبار، وأما المدرسة فلا تضيف جديداً حيث أن جميع المدرسين يأتون من دول مجاورة. لم يتساءل يوما لماذا تختلف عاداتهم وتقاليدهم عن ما يدين به هؤلاء المدرسين. بل كان يزدريهم كما هو الحال مع جميع أهل القرية، ينظرون إليهم نظرة نقصٍ وانعدام رجولة في أحيان كثيرة خاصةً عندما يكون الرجل منهم حليقاً.

لم يقرأ أبدا إلا كتب الدراسة ولم يسمع أبداً إلا عن قصص الأجداد التي تُعاد في كل مجلس والتي لا يخرج محتواها عن ترسيخ عاداتٍ قديمة لا تمتّ للواقع بصلةٍ ولا تزيد المستمعين إلا تعصّبا. الحياة تتكرر على مسامعه وناظريه بلا جديد.. وهو لا يريد منها إلا أن تعيد وتكرر ولا تزيد.. لا يحب الجديد، الجديد يستفزّه، يختبر معرفته وتجربته، وهو خال الوفاض من العلوم والتجارب، هو نتيجة لعملية تنشئةٍ مكررة، كتلك التي تكون في المصانع الضخمة. خطوط إنتاج تصب كلها في قالب واحد، يخرج منها منتج واحد. وهذا أقصى ماكان يحلم به، أن يشبه الآخرين حتى لا يشذ و يُرمى بالجنون ويفقد مكانته.

 تخرّج من المدرسةِ وهو لا يُحسن القراءة ولا الحِساب. كانت مدرسةً شكلية ينجح فيها الطالب المؤدب ويرسب الطالب المشاغب، لا أهمية للتعليم داخل صفوفها. سنّ مدير المدرسة هذا المنهج ليتحاشى عنجهية وسوء أدب المراهقين ونجحت سياسته بشكل مثير. ثم بعد التخرج لم يحر كثيراً بل و بإيعاز من كبار السن تم تقديمه كـ كبش فداء للسرك العسكري، التحق به وتخرج شرطيّا برتبة جندي، ولا تهم الرتبة في سلمهم وعرفهم مادام قد فاز بـ وظيفةٍ حكومية. وكأن قلوب و ألسنة من حوله تردد “فاز ورب الكعبة”. عاد للقرية مفتول الشارب وعلى كتفيه بدلةً عسكرية مكويّة. كان نحيلا جداً كأنه عود ثقاب. التحق بمركز شرطة القرية و اضطجع وهو عن نفسه راضٍ وأهل القرية عنه راضون. بل كان مثالاً يحتذى مقارنة بأولئك الذين لم يحظوا بالقبول ولم يبتسم لهم الحظ حتى الآن.  راح يحكي لأصحابه عن تجربته خارج أسوار القرية. فقد اضطرته الوظيفة في بادئ الأمر أن يلتحق بـ دورة عسكرية في مدينة تبعد مئات الكيلومترات عن القرية. كان يعد الليالي والأيام، ويتحسس بصره الذي كلما أطلقه ارتد إليه بسبب حاجز جداريّ أو مبنى طويل. عاش غريبا بين مجموعة شباب كلهم جاء من مكان بعيد، فلم يستطع أن يمد جسور الصداقة معهم، لم يتعوّد أن يخاطب من لا يعرف. وعندما يُسأل كان يجيب باختصار شديد، ثم يُعرض بوجهه عن العالمين. حتى اللهجات استهجنها، لماذا يتحدث أولئك النفر بطريقة لم يعتدها؟ هل هؤلاء ينتمون لنفس البلاد؟ أم أنهم دخلاء عليها. ربااه أنقذني.. لا استطيع ترك مسامعي تتلوث بهذه الأصوات الغريبة.

قرر مراراً أن يترك الدورة العسكرية ويعود من حيث جاء، ولكنه خاف من كلام الناس، من سياط الكلام التي ستنهال على ظهره، من ابنة عمه التي ربما سترفض الزواج به، من أبيه الذي لن يصبح في عينه رجلاً أبدا، من زملاء الحارة الذي سيسخرون منه وينعتونه بـ “الرخمة”.

وبعد أن استقر به الحال في وظيفةٍ على قدر طموحاته، انتقل ببداهةٍ إلى عش الزوجية. دخل بابنة عمه التي خُطبت له منذ لفظها بطن أمها. أُريقت دماء الإبل والغنم يوم زفافه، وقرعت الطبول وأنشدت القصائد متغنّيةً به وبـ آله.. ورمي بصفات لا يعرف حتى معانيها “الصيرمي، طلق اليدين، معرّب الجدين” وأغدق على أبيه وذويه من الألقاب والصفات ما الله به عليم.. رضي والداه عنه، ورضي هو عن نفسه ورضيت القرية بعد أن امتلأ بطنها من الرز واللحم وانتفخت اعضادها من قصائد المدح التي لم تبرح تمّجد القبيلة وسلالتها وتستعرض الملامحم التي خيضت ليحضى هؤلاء بهذه البقعة الصحراوية الجافة من الأرض. نام قريراً ومرت الأيام سريعا حتى استيقظ على صراخ طفلٍ سمّاه على أبيه “مفلح”، وأردف الطفل هذا بطفل آخر، ثم ثالث، ثم رابع في غضون الخمس سنوات الأولى. امتلأ البيت بأطفاله، وهو ينظر إليهم نظرة فخر واعتزاز.

وعندما ينظر إلى زوجته، لا يشعر بشيء باستثناء شعوره أنها من مقتنياته التي يدافع عنها بروحه وماله ودمه ولكنه لم يحبها يوماً. هو لا يعرف الحُب بل يستهجن التعبير عن مشاعره لأي كان. هو قاسٍ وجافٍ كالجدار. حتى جوارحه لا يستخدمها الإستخدام الطبيعي. يستخدم نظره في رؤية ظواهر الأشياء فقط، وسمعه بالتلصص عليهم والطرب لسماع مساوئهم، وأنفه آه من أنفه الذي امتلأ بالشعر وروائح الدواب. وأما يديه ورجليه، فـ أصابهما من اليباس والإهمال حتى أصبحا كجذوع النخل وأطراف الشجر. كيف لمثل هذا الجامد أن تدغدغ روحه نسائم الشوق وكلمات الحب.

نظر مرةً في عيني زوجته وهما للتو استيقظا من نومٍ طويل، فقال لها: آه لو كان عندي من المال كاللذي عند فلان. كنت سأتزوج عليك ثم أتزوج عليها، ثم أتزوج عليكن أخرى، وأكاثر بالأولاد حتى يصبح عندي منهم مثل ماعند فلان. لم تكترث زوجته بما قال، فهي لا تحبه، ولا تشعر اتجاهه بأي شعور. هو مجرد حتميةٍ من حتميات الحياة كان يجب أن تتعايش معها. هي أيضا لا تشعر كما يشعر النساء، ولا تغار كما تغار الحبيبة، هي دابة مسلمة، لا تطمع من الحياة إلا أن يكبر أطفالها ولا يصيبهم أذى، وأن تزين نحرها بـ عقدٍ ذهبي تغيظ به نساء القرية. أصابها لعنة الطبقة الوسطى، فلا هي من الوجهاء الأثرياء، ولا هي من الفقراء البسطاء.. تحاول أن تقنع الفقراء بأنها من طبقة الوجهاء ولم تفلح، وطبقة الوجهاء لا يكترثون لأمرها لا من بعيدٍ ولا من قريب. فهي مهووسة بجلب الإنتباه، ولم تجلب لنفسها إلا الشقاء وهذا الجدار الماثل أمامها.

تسلل بعد سنوات العزلة إلى القرية أثير الأنترنت. وامتدت معه الشبكة وانتقلت المعلومة. فكان نصيب صاحبنا منها كبيراً. كعادته يظن أنه يستحق فقط لأنه هو هو، لا لسبب آخر. اشترى جهازاً جديداً واتصل اصبعه بالشبكة وأصبح جزءاً منها. ولطالما اشتكت شاشة الهاتف من خشونةِ أصبعه وبلادةِ عقله.

في الواتساب، يدير أكثر من مجموعة “قروب”. يسن قوانيناً صارمة. يطرد فلانا ويترك الآخر. ومن ثمّ التحق بتويتر وراح يضرب بسهمه وينافح عن رأيه ويناطح من خالفه كأنه ثورٌ مسّه لهيب النار. جرت به السنين كما فعلت بغيره، ولم يتغيّر. لا يزال يقبع داخل دائرة محكمة الإغلاق، صنعها المجتمع، واختار هو أن يدخلها ويغلق خلفه الأبواب.

**

في اللحظة الأولى يصاحب جهل المولود التام بما هو مقدمٌ عليه بكاءٌ عريض حتى وإن كان بين يدي أكثر الناس رفقاً به “أمه”. وهذا يفسّر أيضاً بكاء الأحياء على الأموات، وهو جهلهم بمصير هذا الشخص الذي سينتقل من الحياة التي يعرفون إلى حياة أخرى يجهلون، رغم إيمانهم بأنها قد تكون حياةً أكثر رحابة، بل هي كذلك لكل مؤمن. الجهل يغذّي كل مخاوفنا وهو عدو الإنسان الأزلي، فلا يزال البشر يحاربونه بما أوتوا من علمٍ وما أعطوا من حرية في التجربة والإكتشاف. والمصيبة عندما يتوقف الإنسان عن محاربة هذا العدو، ويستسلم له ويرضى به ثم يتعصّب له، وينتهي به المطاف كـ أبي مفلح.

أضف تعليق