حديثٌ عام

يكاد يصيب اليأس معظم الشباب الذين يقرأون السير الذاتية لشخصيات كبيرة من علماء ومثقفين كبار أو غيرهم من الشخصيات التي يُشار إليها بالبنان. وهذه السير الذاتية تسطّر في طياتها رحلاتٍ مضنية من المطالعة والتجربة والضرب في الأرض والعمل المتواصل في تحصيل المنشود والجدية التامة في طلبه. وتلك الرحلات العلميّة أو غيرها هي بلا شك محل إعجاب وتقدير، وكلها تدور في رحى قوله صل الله عليه وسلم (اعمل: فكل ميسّر لما خُلق له). رواه البخاري.

واستناداً على تاريخ الانسان والحضارة، كان يجب على الانسان العاقل أن يفتّش بتروّي وجديّةٍ متوكّلاً على خالقه عن هذا التيسير وذلك الشأن الذي من أجله خُلق بعد تحقيق العبودية الخالصة لله. فالعمل الميسّر لهؤلاء البشر يتعدد بتعددهم وتعدد البيئات والظروف المحيطة. فالأنبياء والصالحين والأمراء والعلماء هم كذلك لحكمةٍ الله يعلمها، وهذا يقاس على جميع طبقات وأفراد المجتمع، وبالنظر إلى العصر الذي نحن فيه، فنحن فيه لحكمةٍ الله يعلمها، وظروفنا الاجتماعية والجغرافية التي وُجدنا فيها أيضا لها حكمة إلهية. وهذه الحِكم التي هي من أسرار الخلق العظيمة، لا يمكن أن نتوصل إليها عن طريق قراءة الكُتب، والاستماع للمحاضرات وحدها، ولا حتى من خلال الاطلاع العلمي البحت، وإنما ينبغي على العاقلِ أن يفتش في داخله عن مكنونات هذه الحكمة، ويتساءل ويطلب من الله أن يهديه سواء السبيل وأن يهيئ له من أمره رشدا. فهكذا استفتح أصحاب الكهف أمرهم (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) سورة الكهف.

وفهم مفردات الآية السابقة تعطي الإنسان مدلولات واضحة عن مرادها لذا سنستعين بما جاء في كتب اللغة:

  • (الهيئة): هي (الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسة كانت أو معقولة)
  • (وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء، أي أصلح ورتب)
  • (والرشد: خلاف الغي، ويُستعمل استعمال الهداية)
  • وهو: (إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب، والاهتداء إليه). من كتاب مفردات الراغب.

هؤلاء الفتية آمنوا وخالفوا ما كان عليه قومهم من الشرك، وهذه كانت بداية الطريق، ثم هم بعد أن استقر الايمان في قلوبهم، استعانوا على أمرهم هذا بطلب الهداية والرشد فجاءتهم البشرى بـ “فأووا إلى الكهف”. ثم جاء التيسير بالإيواء إلى الكهف واعتزال مجتمعهم وماهم عليه من الشرك. وهذه مرحلة متأخرة بالنظر إلى أحداث القصّة. 

وعلى نقيض الارشاد الإلهي، والتيسير الذي وجّهنا إليه سيد البشر صلوات ربي وسلامه عليه، نجد الغواية والغفلة، والعمل الذي ينتهي به المطاف “هباءً منثورا”.

وحدوث نقيض الرشد والهداية يكون بـ عدم الاستفادة من العقل والحواس ومن ثم الغفلة، كما قال ربنا تعالى في كتابه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْغَٰافِلُونَ).

وجاء في تفسير الطبري:

15450 -حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (لهم قلوب لا يفقهون بها) قال: لا يفقهون بها شيئًا من أمر الآخرة – (ولهم أعين لا يبصرون بها)، الهدى – (ولهم آذان لا يسمعون بها) الحقَّ، ثم جعلهم كالأنعام سواءً، ثم جعلهم شرًّا من الأنعام، (11) فقال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ، ثم أخبر أنهم هم الغافلون.

**

وعطفا على أولئك الذين طابت النقاشات حول شخصياتهم وامتدت بذكرهم صفحات الكتب من العلماء الربانيين والمثقفين الكبار وغيرهم تكاد تكون حياة كل منهم مرّت بمراحل أربعة وهم بذلك يتشابهون مع قليل من الناس بمرورهم بهذه المراحل، ولكن الفرق بين هذين الفريقين يكمن في التفاصيل. تفاصيل كل مرحلة ونتائجها.

تحدث عن هذه المراحل الأربع الكاتب مارك مانسون في مقالة عظيمة نحاول إعطاء لمحة عامة عنها فيما يلي:

  • التقليد: في المراحل الأولى من عمر الإنسان يكون عالةً على من حوله ثم بتدرجٍ طويل يبدأ في محاكاة تصرفات أبويه حتى يصبح كأنه نسخةً منهم، وكلما امتد به العمر كلما ازداد تقليداً لمن هم حوله ممن يثق بهم وتعجبه تصرفاتهم حتى يصل إلى مرحلة المراهقة. هذا في الحالة الطبيعية، بينما هناك فئة من البشر تبقى حبيسة هذه المرحلة بشكل كبيرٍ حتى فوات الأوان، لا يستطيعون تجاوز الآراء المسبقة التي يدين بها الآخرون، ولا يملكون الشجاعة لخوض تجربة جديدة ومحاولة الاكتشاف، بل يبقون في الظل، يراقبون الآخر ثم يقلدونه. (إنا وجدنا آباءنا على أمّةٍ وإنا على آثارهم مهتدون). الزخرف!
  • اكتشاف النفس (التجربة): تبدأ عند الإنسان الطبيعي في مرحلة المراهقة نزعة التجربة بعيداً عن خبرات وتجارب من سبقوه. يشعر حينها أنه كائن مستقل يجب أن يضرب في الأرض ويأخذ من دروسها نصيبه الخاص. ويتباين الأشخاص في مرحلة التجربة بين المتعصبين لها من الذين يقضون كل حياتهم في هذه المرحلة ظنا منهم أن الإنسان خُلق ليجرب، والأشخاص الذين يأخذون منها نصيبا وافراً ثم ينتقلون إلى المرحلة اللاحقة. في التجربة يكتشف الإنسان حدوده وإمكاناته، فعن طريق التجربة ينجح في أشياء ويفشل في أخرى، مما يعطيه مؤشراً عاماً عن نفسه وتصوّرا جيداً عن ما يحب وما يكره، وما يستطيع ومالا يستطيع مع استحضار عامل الوقت الذي يتسرب من يديه ثانية بعد أخرى. فأولئك الذين يدركون عامل الوقت، ويظنون في أنفسهم خيراً غالبا ما ينتقلون للمرحلة التالية.
  • الالتزام: وغالبا ما ينتقل الإنسان إلى مرحلة الإلتزام عند بلوغ نهاية الثلاثينات أو كما سماها القرآن (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) الأحقاف. حينها يكون قد استوفى حظه من التجارب واشتد عوده واتزن عقله بسبب تعدد المضارب والمشارب، وحان وقت الإلتزام بأشياء معينة استُخلصت من التجارب السابقة. وكما أشرنا أنه ليس الجميع يصل إلى هذه المرحلة، فكثير من الأشخاص يقضي كل حياته من تجربة إلى أخرى، وما أن يسأم من شيء حتى انتقل إلى غيره. في هذه المرحلة وبعد أن قلد الإنسان مجتمعه وذويه في أشياء، ثم جرب هو بنفسه أشياء وأشياء، تتضح له الرؤية فيما يريد أن يكون، أو ماذا يريد أن يفعل. يجد إجابة من أنا، وكيف سأقضي بقية العمر. ثم يصبح ولديه إيمان كامل بمبادئ معينة يلتزم بها، وينتهج منهج حياةٍ يلتزم به. فمن الناس من يلتزم بالتجارة والاستكثار من المال فهذا ما يجيده وما يريده، ومنهم من يبذل حياته للآخرين محاولا إسعادهم، ومنهم من يكاثر بالأولاد ومنهم من يفاخر بالنفوذ، ومنهم من يغوص في أعماق المعرفة باحثاً عن أسرارها، ومنهم من يزهد ويركن وينطفئ. تتعدد توجهاتهم بتعدد أنفاسهم، ولكنهم كما ذكرنا، بعد أن جربوا وخاضوا غمار الحياة، خلصوا إلى هذه المعاني أو الحقائق أو الأشياء وأخلصوا لها والتزموا بها.
  • التوريث: وهذه مرحلة فاضلة ونهائية يبذل فيها الإنسان جهداً آخر يودّع به من حوله، والمودع كما يُعرف دائما، يترك وصيةً قد جربها جيدا والتزم بها عمرا وحان وقت توريثها لأحبائه. فالتاجر يترك وصاياه عن التجارة، وذو النفوذ يترك وصايا عن كيفية بسطه والمحافظة عليه، والعالم يورث علمه، والجاهل يورث جهله. لو أخذنا شريحة من كبار السن ممن نعرف، وأسقطنا عليهم المراحل السابقة، سنرى بوضوح من أي الفئات هم. لن يكون أحدهم عالما جهبذا ولا تاجراً مخضرما، ولا سياسيا محنكاً إلا وقد مر بالمراحل الأربعة كلها. أما أولئك الذين اقتصرت تجربتهم عند المرحلة المرحلة الأولىى فكثير من البشر، خصوصا أولئك الذين يتغذون على العادات والتقاليد الموروثة، وأما الذين حُبسوا في المرحلة الثانية، فهم كثير أيضاً ولكنهم غثاء كغثاء السيل، يعيشون تائهين بلا وجهة ولا معنى، وأما أولئك الذين اقتصرت حياتهم على المرحلة الثالثة فقد يكونوا أشخاصا جيدين وناجحين إلا أنهم لم يظنوا يوماً أن مالديهم من خبرة تستحق التوريث، فاقتصرت أيامهم الأخيرة على الزهد والانكفاء.

والسؤال الآن، لماذا يكتب غالب الناجحين والمؤثرين “سيرهم الذاتية” ياترى؟ أنهم يقولون لنا بملء أفواههم أنهم يعيشون في المرحلة الأخيرة، مرحلة التوريث. لديهم الكثير، لا يريدون مغادرة الحياة والاستئثار به. كأنهم يصرخون بصوت واحد، هناك ما نريد أن نقوله لكم، أو نشعركم به، أو ننبهكم إليه، أو نحذركم منه.. فتلك السير تبتدأ بفترةٍ كانوا فيها مقلّدين، ثم مجربين، ثم ملتزمين، ثم تنتهي بهم مودّعين (مورّثين).

**

وأنت يامن تعددت تجاربك، وربما كثُرت قراءاتك بحثا عن الشأن الذي لأجله خُلقت، أملتزم بشيء؟ أم ليس بعد؟ لا تزال تظنك لم تمتلئ بالتجارب بعد. تريد أن تجرب أكثر، أن تعيش أكثر، أن تفر من مسؤولية الإلتزام بشيء ما قدر الإمكان؟ أشعر بك، فأنا مثلك، وكذلك كثير من الناس.  

مرحلة الالتزام هذه هي الفيصل. هي المحك. هي التي قد تجعل من شخصين يعيشان في محيط واحد وبظروف متشابهه، تتباين في نهاية المطاف أحوالهم تبايناً أبعد مما بين المشرق والمغرب. مرحلة الإلتزام هي مرحلة الأخذ بقوة، وهي عنوان المسؤولية، وهي التي بعون الله ستجعل منك مميزاً، ومؤثراً، وذا قيمة. سوف تستعرضها بعين الرضا عند الوداع، وستنزلق من أهدابك دمعة سرور حين تغمضها مفارقا الأرض ومن عليها.

وأما مرحلة التوريث، فإن أجدت فيها صنعاً وتحرّيت فيها الإخلاص، فغالباً أنت من أولئك الذين سيخلّدهم كتاب الزمان ويستطيب بذكرهم كل لسان.

ومدار ذلك كله في توفيق الله وهدايته، وأنت تسأله ذلك في اليوم والليلة عدة مرات حين تقول في صلاتك “إهدنا الصراط المستقيم”، وتمهّد لأمنيتك هذه بالخضوع له والاستعانة به حين تقول “إياك نعبد وإياك نستعين”، و الله الذي ألهمنا الفاتحة أتظنه يبخل علينا بالهداية؟.

أضف تعليق