أيها العامِل إلى أين؟

تمر أذني هموم المترفين من أبناء جيلي. كلهم لا يعرفون إلى أين. ولست أعني بالمترفين هنا أولئك الذين يندرجون من طبقةٍ مخمليةٍ لا يندى على جبينهم عرق ولا تتعب لأحدهم قدم، بل أولئك الشباب الموظفين من الطبقة المتوسطة وأصحاب الدخل الجيّد. فبالنظر إلى الواقع المزدهر، والرواتب العالية، والحياة الفردوسية التي نعيشها نحن شباب هذا الجيل، كان لزاما على هؤلاء أن يُسمّوا مترفين.

وهؤلاء ممن خبرت وعاشرت، ما أن تبتسم لأحدهم الحياة أو تبتئس حتى يتوه تيه المجنون ويطيش طيش المخبول ثم لا يدري إلى أين. يجرب أحدهم في كل مرةٍ طريقةٍ جديدةٍ لتفادي هذه الحالة من اللا أدرية، ثم لا يصل كل منهم إلا إلى نهاياتٍ تشبه سراب الماء يظنه التائه ماءً وهو ليس بماء. كل هؤلاء الذين مرّت أذني شكواهم وتألم لها قلبي قبل مسامعي، كانوا يعيشون بالنصف. نصف حقيقة، ونصف أمل، ونصف حياة. فتجد أحدهم يعيش اللحظة فإذا انقضت تلك اللحظة تطلّع إلى لحظةٍ تتبعها تشابهها أو تختلف عنها، المهم أن يكون هنالك لحظة أخرى. وكأن الحياة عبارة عن مجموعة من مقاطع تطول وتقصر ولا اتصال بينها.. إمساكٌ باللحظة وتفريطٌ بما وراءها. وهؤلاء غالباً لا يتساءلون لماذا؟ وإنما أسئلتهم تدور رحاها حول ثم إلى أين؟ والفرق بين السؤال عن ماذا والسؤال عن أين، كبيرٌ جداً.

فهذا الذي يسأل عن ماذا، هو شخص يجهل تمام الجهل ذلك الشيء الذي يسأل عنه. ومثال ذلك قول أحدهم لآخر ماذا تريد؟ فهو يجهل مُراد الطرف الآخر بشكل عام.

أما حين يسأل السائل عن أين كأن يقول أين الشيء؟، فهو يعلم في قرارة نفسه أن هنالك شيء ما، ولكنه يجهل مكانه أو الطريق إليه. وهذا إن دل فهو يدل على أن إجابة سؤال كهذا هي فطرية ولكنها ساكنة أو غائبة عن المشهد لسبب ما. هي فقط تحتاج إلى مُذكّر “فذكّر إنما أنت مذكّر”..

وفي ظني أن أزمة المعنى هذه يعود سببها إلى تشابه في السلوك والمفاهيم والممارسات بين شباب هذا الجيل. فأحدهم يستيقظ صباحاً ويمارس روتينا يتّسع أو يضيق، ثم يعود أدارجه في المساء من حيث خرج في الصباح، ثم يستقر بجسده على سرير البارحة مهيّأً نفسه لروتينٍ مشابهٍ مع بزوغ شمس يوم الغد. يكرر ذلك كثيراً حتى يتسنى له تحقيق نجاحٍ كان ينشده، أو يصل إلى مرحلة رضىً كان يطلبها، ثم في مرحلةٍ ما يبرز بلا مقدماتٍ تساؤلا تمليه عليه روحه ثم إلى أين؟.. يغفل ذلك التساؤل بدايةً ثم ينهمك في روتينه هذا ولا يزال هذا التساؤل يطرق حسّه وينغص عليه بين الحين والآخر. فما أن يسعد بترقيةٍ أو نجاحٍ مادي أو إنجاز وظيفيّ حتى يداهمه هذا التساؤل مجدداً.  وكأنه عدو يترصده في كل محفل وعند كل نجاح. ثم بعد هروبٍ يتبعه هروب، وقد يمتد هذا الهروب أو التجاهل إلى سنواتٍ طويلة حتى يتحتم عليه أن يصطدم به بشكلٍ مباشر. فلا يجد لنفسه حينها عزماً أمام سؤالٍ وجوديّ كهذا. ينهزم أمامه، ثم يطيش به عقله الذي لطالما قدّسه وسار خلفه وأتمّ به ووجد بتأويلاته الملاذ وفي تبريراته الركن الشديد. يفتش في جعبته ثم لا يجد إلا مزيداً من الحيرة واللا أدريّة “لا أدري”..

فما أن يحار العقل حتى تبرد في الروح حماستها، وتنطفئ كل الأشياء وتضيق بالإنسان الأرض وتكفهر السماء. 

والأزمة هي أزمة فكرٍ لا غير. كلهم كان يضع جُل آماله ومنتهى طموحاته في العمل والإنجاز ويظن بشكل حتمي أن في العمل المعنى وفي الإنجاز السعادة والاتزان والخلاص. يتفاوت هؤلاء في حماستهم وجديتهم تجاه منهجٍ كهذا ولكنهم في المجمل يسيرون في طريق واحدة وينصبون أمام أعينهم الوجهة ذاتها. فما أن يقطع أحدهم نصف الطريق أو أكثره حتى تتزايد شكوكه تجاه فاعلية هذا المنهج أو حتى حقيقته. هل بذلُ العمر في سبيل تحقيق نجاحٍ مهني أو تجاري يعد شيئا لائقا؟ هل هذا كل ما تستحقه نفسي مني؟

ماذا بعد الانجاز؟ انجاز آخر؟ وماذا بعد الدرهم؟ درهم آخر…… ثم إلى أين؟ 

**

والناظر حين ينظر في الحياة ككل. أي منذ البداية حتى النهاية، منذ الميلاد حتى الممات، يصيبه اليأس، وربما انطوى وسكَن وزهد. إذن ما الحل؟ بأي ميزانٍ يجب أن يزن المرء هذه الحياة العين وبأي عين يجب أن ينظر إليها؟

لقد خلق العالم الميكانيكي هذا في النفوس إرتباكاً لا يجهله أحد، وأصبح مشي البشر فيه يشبه مشي الغراب.. غريبٌ ويستهجنه كل ذي عقل. كل انسان يشعر بعظمة نفسه وأزليّتها واتساع طموحاتها في داخله، وعبثاً يطبطب عليها بالحركات والسكنات هنا وهناك. وكأنه يقول لها اهدئي، ها أنا ذا أحاول جاهداً ارضاءك وتحقيق رغباتك. ولكن كيف تستطيع إرضاء هذه النفس التي بين جنبيك وأنت تأتيها كل يومٍ بمشروعٍ مؤقت. هي تريد منك شيئا أزليّاً، تماما كشعورك أنت بأنك كنت دائم الوجود وستظل دائم الوجود أيضاً. ألست تشعر بذلك؟ أجزم أنك تشعر بذلك وتؤمن به.

والحقيقة أن في استحضار حقيقة “الجنة والنار” سلواناً لكل نفس تعاني وتتخبط وتفقد غالبا زمام أمورها أمام هذا كله! فأي فكرةٍ وأي شعور ليس بأزليّ فهو هزليّ بالنسبة لروحك بلا شك..

دعك من كل فكرةٍ مهما كان لها صدىً ورنين، ومهما برُقت لها عينك وسال لها لعابك، وتذكر هذه الحقيقة “الجنة والنار”..

لن يكون لأي شيءٍ تفعله أو تقوله معنى إذا غاب مفهوم الجنة والنار عن مشهد حياتك، عن خيالك، وعن تصوراتك. وعكس ذلك أن تكون كل كلمةٍ وكل خطوةٍ وكل عملٍ لها معنى حقيقي وجميل وحتمي وأزليّ. لا تسألني ثم إلى أين، مالم تستحضر إجابةً فحواها “ثم إلى جنةٍ أو نار”.

وإن كان ما تعمله كل صباح هو عمل مادي بحت، وليس للجنة أو النار فيه من نصيب. فهذا لا يعني إلا أنك مطالبٌ بإتقان عملك حتى يكون شاهداً لك لا عليك، وأنه أمامك فسحة من الوقت تبحث فيه عما ينجيك من النار ويقربك من الجنة. ساعة من نهار أو خلوة في ليل، كافية لأن تُوجد التوازن في حياتك العبثية والمضطربة هذه.

والمؤمن حق الإيمان، ليس رجلاً لا يبرح محاربه يعبد ويصلي، وإنما الإيمان هو عملٌ قلبي، تكمن جل معانيه في استحضار “الجنة والنار” وأن الله شهيد عليك، يسمع ويرى.

جاء في الأثر: “لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن” في هذا الحديث ليست القضية انتفاء إيمان السارق بالكليّة، وإنما ساعة السرقة لم يكُن مؤمنا، لم يكن مستحضراً شهادة الله عليه، ولم يكن مستحضراً النهاية “الجنة والنار”. كان غارقاً في اللحظة، في العمل، وفي الدنيا.

الدين كامل بلا شك، “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”، وهذه المادة ليست مادة زُهد وسكون وانطفاء، وإنما مادةُ استحضار النهايات خلال الطريق..

في كتاب “العادات السبع للناس الأكثر فعالية” للعبقري ستيفن كوفي، كان يركز على نقطة مشابهه ولو أنها ماديّة بحتة إلا أن ذكرها لا يتعارض مع فكرة الجنة والنار. يقول لك “استحضر نفسك عندما تكون قد بلغت الثمانين عاما”، أي النهاية أو قريبا منها، وابدأ العمل على ما يجعلك فخوراً حينها.

في استحضار النهايات المعنى لكل شيء تأتيه.

أضف تعليق