فلاح

اجتمعت له الحياة اجتماع الفاكهة على مائدة، فاحتار في ملذاتها ثم تردد واختار. ولا يزال كذلك يختار منها وهي تعطيه، ويسترضيها وهي ترضيه، ويستزيدها وهي تجود عليه.. أمِنها واطمأن لها وخاض بحرها الغدار غير مباليٍ بشيء، حتى وطنه، حتى مجتمعه، حتى أهله، حتى نفسه.. حتى تهاوى ما بينه وبين الناس، وما بينه وبين رب الناس، فبقي هكذا وحيداً كالغرابِ يواجه الدنيا عاريَ الصدرِ وغرريبا..

فلاح، من سلالة أسرةٍ عربيةٍ عريقة وكانت تنشئته كذلك وتفاصيل حياته لا تكاد تخرج عما تآلف عليه أهل ذلك الزمان من الارتباط بالعادات والتقاليد والإتزان في التعاطي مع الجديد، حتى جاءته البشارة بقبوله في بعثةٍ حكوميةٍ لدراسة الطيران في الولايات المتحدة الأمريكية. استبشرت الحارة كلها وبالخصوص أهله وذويه، وراحوا يهيؤنه لهذه المغامرة وهذا الشرف. حتى أطفال الحي، استبشروا بالخبر وتفاءلوا بقربه من أيديهم وأحلامهم. فمن أعطى فلاح الفرصة، لن يبخل بها على كل مجتهد.. أليس كذلك.. هكذا أمسوا يرددون وفي كل بيتٍ شبابٌ يتهيّؤن، لمثل هكذا فرصة.

كان قبوله ببرنامج الابتعاث الحكومي أشبه بـ الصرخة في وجه المثبطين والمتكاسلين، ونداءً عاجلاً لأحلام المراهقين واستنهاضا لهمم الطامحين. فما أن خرجت شمس اليوم التالي إلا والناس بفضولهم راحوا يراقبون تحركات فلاح، ويدعون له، ويتمنون الخير له.. وتستوقفه النسوة في السوق، ويُكبرهُ كبار السن في المجالس، وتتخطفه براءة الأطفال وسذاجتهم حين يمر بهم وهم يلعبون.. وهكذا هكذا حتى جاء اليوم الموعود، وحلّقت به الطائرة.

مرت الأعوام الأولى ورسائل فلاح تتخطفها الأيدي حين ينادي بها ساعي البريد، والأشرطة المسجلة بصوتهِ كانت تدخل كل بيت وتستقر تفاصيل حكاياته ووصفه للعالم المتقدم في كل أذن. والأذن تترجم للعين أحياناً.. فكانوا كلهم كأنهم رأوا أمريكا وعاشوا فيها.. أحبوها، أحب أهل ذلك الحي أمريكا وتمنوا أن تحلّق بهم أمانيهم وتهبط بهم على سواحلها الساحرة. أحبوها بفضل ابنهم وصديقهم وجارهم المجتهد.. لقد كان يعيش فيهم كينبوع أملٍ، ثم مالبث أن جف هذا الينبوع.. وأُوصدت أبوابه أمام طموحاتهم الكبيرة وأحلامهم الكثيرة..

انقطعت الرسائل وغاب الصوت.. وكأنه سقط في بئر. تبعثرت أحلام الصغار، وارتعدت أفئدة الكِبار والحيرة طمست بضبابيّتها شمس النهار.. وراح الكبار والصغار يتساءلون على حدٍ سواء، أيعقل أن تسلب الحضارة من الإنسان كل شيء.. حتى وطنه، حتى مجتمعه، حتى أهله، حتى نفسه؟ أيجب أن نترك فلذات أكبادنا ينسلّون من أيدينا ونهيئهم لمصيرٍ كهذا؟

أوصد الآباء آذانهم عن رغبة صغارهم في الابتعاث، ورجفت قلوب الأمهات خوفا على أبنائهن والبنات، وراح الكبار بفطرتهم وحنانهم يدمدمون أحلام صغارهم ويأملونهم بمستقبلٍ أفضل بلا بعثات.. وصار عنوان تلك الحقبة، ليس إلى الابتعاثِ من سبيل.. نقطة آخر السطر.. ولطالما ردد الصغار لماذا فعلت فعلتك التي فعلت يا فلاح؟ أي هدمٍ للإحلام مارست، وأي خيبةٍ أنزلت بأبناء حارتك بعد أن كنت بمثابة الشعلة التي أضاءت لهم الطريق..

وبعييييداً عن الحارة هنالك على الشاطئ الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية، وقريباااا من ملذات الحياة، يعيش فلاح الذي نبذ الماضي وأصالته، واختار هذه الحياة واختارته.. انبسطت له انبساط السهلِ، وانبرت له انبراء القلمِ، وتغنّجت وتدلّعت وتزيّنت وهو هو مندفعٌ تجاهها كالمجنون الذي يخدعه بريقها ويظن بسذاجة أنه أصبح صديقها.. لقد رمت به الأقدار في حضن الحياة.. الحضن الأشقر والملمس الناعم واختارت له من الألوان، لون البياض. لون النور، ولون القمر.. لقد أتاه القمر ماشياً بـ قدمين ناعمتين، وله وجنتان حمراوان هما أحلى من القمر ليلة بدره..

لا لا لا مستحيل أني كنت حيّا قبل لقياكِ. هكذا راح يردد وهو في حضرتها كلما حضرت.. أي حضور وأي طلّةٍ وأي حياة.. وكلما خطر على قلبه خاطر من تلك التي تأتي مليئة بالغبار والذكريات، كلما هشّ عليه بيده ونفض منه ثيابه وتعوذ من تلك الخطرات.. أي قطع للجذور، بل أي اقتلاع لها هذا الذي تمارسه على ماضيك يا فلاح؟ لقد فر من الماضي فرار الحمار من الأسد، وراح يردم الهوّة بين ماضٍ كله تقاليد، وعالمٍ متجدد ليس فيه أي تقليد.. الحرية هي الإله وهي الحاكم وهي القانون وهي القدر..

كفر بكل شيء وآمن بها، آمن بالفتاة وتشرّب معتقدها.. وهو بذلك يشبه القائل “مستحيل أن تعبدي إلهاً ولا يكون هو الإله الحقّ”..

ومررت السنون ولا أحد يعلم عن خبره شيئا، الكل ظن ألا سبيل للوصول إليه أو حتى معرفة ما آلت إليه أموره.. الكل نسيه بعد أن وارى جثمان أبويه التراب، باستثناء أخته. لا تزال تتمسك بأمل يشبه خيط دخان، نحييييل وضعيييف وآيلٌ إلى الزوال.. راحت تراسل السفارات ومراكز الشرطة والجرائد الكبيرة والصفحيين، وليس ثمة رد ولا حتى صدى. كانت مراسلاتٌ باتجاه واحد.. كانت مراسلاتٌ بدائيةٌ في عالمٍ لا يشبه عالمنا هذا الذي ربطت بين أوصاله الشبكة العنكبوتية “الانترنت”.

ترافق أيامها غصةٌ منذ غاب فلاح بلا سابق انذار، بلا عذر وبلا إخبار.. لقد غاب هكذا فجأة وهذا ما شغل قلبها وأفرغه من كل شيء، إلا من ذكرى فلاح.. تزوجت وانجبت وسمت بكرها عليه، وطال بها العمر حتى جاءت النكبة، وجاء الاحتلال.. أُحتل بلدها واضطرب كل شيء .. لم تعد الحارة هي الحارة ولا الناس هم الناس، وتفرقت بين الجيران السُبل وصار فلان يقتل فلاناً فقط لأنه لا يدين بدينه.. اشتبك حابل البلاد بـ نابلها وتدمرت البلاد وتاه العباد، وليس ثمة مخرج إلا بالاستنجاد بالغازي نفسه. راحت الأخت وابنائها ومن بقي من العائلة تتوسل إلى سفارة الولايات المتحدة الأمريكية وترجو أن تُمنح هي وعائلتها حق اللجوء.. وكان لهم ذلك كلهم.. استبشرت وتذكرت..  

طارت بها الطائرة وعادت بها الذاكرة، فكانت قلقة من اللجوء وسعيدةً بالفرار من الحرب والنار.. لاح لها خاطر أخيها وهي في الطائرة، ابتسمت، تفائلت، ثم عزمت على تجديد عملية البحث وتكثيفها.. ليس ثمة عذر، والانترنت قد حوّل العالم إلى قريةٍ صغيرة..

لما استتب لها أمرها، امسكت بهاتفها وراحت ترسل تغريداتٍ في كل هاشتاقٍ باللغة الإنجليزية.. تضع صورة أخيها وتتساءل عما إذا كان يعرف أحدٌ مكانه.. هي تعلم أن شعره الاسود في صورته التي مضى عليها أربعون عاماً لم يعد كذلك، ولكن هذا حال من لا حيلة له، يتمسك بأي قشةٍ ويعض عليها بنواجذه.. راحت الأسابيع تمضي والأشهر تنقضي ولا صوت يرد ولا أمل يِجدّ، حتى في يومٍ من أيامها السعيدة جاءها رد من فتاة أمريكية تسكن في ولايةٍ بعيدة.. تقول السيدة أن هذا الرجل هو يسكن بجواري، ونحن في المدينة الفلانية والشارع الفلاني..

دبّ فيها نفس جديد، وساورها شك شديد، لكنها عزمت على المضي ولو على حساب أموالها التي هي على وشك النفاذ.. حضّرت نفسها وامسكت بعصاها وادّرجت تريد المطار.. اقلعت وهبطت بها الطائرة، استقلت سيارة أجرة مع أحد أبنائها اليافعين، ثم قصدت العنوان.

توقفت السيارة، مشت باتجاه البيت تتكئ على عصا بابلية.. كانت الريح سريعة كأنها تسابقها إلى البيت.. مرتبكة هي وكأن هواء العالم كله يضطرب داخل صدرها، ويفرغ في حين آخر صدرها من كل شيء وكأنه عبوة زجاجية مهملة.. فهي ملأى وفارغة في الوقت نفسه.. ولكنها لا تبرح تردد “يا رب يكون هو، يا رب يكون هو، يا رب يكون هو”..

صادف مجيئها وقت خروجه لسقاية الزرع قبيل المغرب، خرج متلبكاً كعادته منذ أن توفيت الحبيبة. توفي القمر، وبقي هكذا في ليلٍ دامس منذ وفاتها.. يقلب النظر، يفكر، يسترجع الذكريات ولكن الذاكرة لم تسعفه.. حاول أن يرجع، أن يتوب، أن يعيد إحياء الجذور، لكن الوقت يبدو أنه فااااااات..

نادته “فلااااااح”، فما أن سمع اسمه الذي دفنه منذ سنين حتى تراكمت عليه الاحتمالات وترددت بينها الذكريات.. التفت يبحث عن مصدر النداء بلهفةٍ كاد ينفتق منها صدره، فإذا بها أخته وقد مال عودها وذبلت زهرتها ولكن العينين هما العينان، والابتسامة هي الابتسامة.. اقترب منها ليقطع الشك بيقين، ضمها إلى صدره، فكانت الرائحة هي الرائحة. فما ان استنشقها حتى استعاد استعاد كل الذكريات وتضخم الحنين حتى كاد ينفجر منه قلبه. بكى بكى بكى حتى سقط على ركتبيه.. جثى بين يديها واستغفر من ذنبه..

أي أختي كيف وصلتي إلى هنا؟ وكيف حال والدتي ووالدي؟ وكيف هي الحارة؟ وماذا حدث ومتى حدث وكيف حدث ماحدث؟؟ حدثيني أرجوك.. صليني بما قطعت بيدي. صليني بالوطن والمجتمع والاهل وبنفسي.. صليني بالله..

قالت: ما هذه الوشوم التي تغطي جسدك ألا تزال مسلما؟ أم بدّلت؟

والحقيقة أنه لم يصل صلاة منذ ثلاثين سنة.. لقد ترك كل شيء خلفه وركض خلفها.. فما ان ماتت حتى جلس يضرب كفا بكف لا يدري ماذا يفعل الآن. لم يدر بخلده أن الحب مهما كمُل فهو ناقص أو آيل إلى الزوال..

ابتأست اخته لحاله.. وأمضت معه بعض الوقت تعلمه الصلاة وتربطه بالماضي وتأمله بالمستقبل.. لقد كان جثةً ثريةً تمشي على غير هدى، تائه وحائر وحزين.. أعادت إليه الطمأنينة فارتااااااح.. فما ان اطمأن وارتاح، حتى سجّل أملاكه كلها باسمها ثم فارق الحياة.. شهر واحد أنقذه.. صدفة أنقذته.. أمل أنقذه.. حرب ضروس أنقذته.. ما الذي أنقذه برأيك؟

أي نية طيبة هذه التي ساقت إليك أختك سوقاً حتى تعلمك الدين قبل أن تموت بشهر؟ أي قلبٍ سليمٍ هذا الذي أنجاك قبيل الرحيل بأيام؟ أي عملٍ أحبه الله منك فأحب لقاءك..

أضف تعليق