
اطل من مكتبي هذا على المكان وأرى حديث الشفاة وتبادل التبسّام بين الموظفين. وكأني بدخولِ هذا المكتب الزجاجي قد فقدت حاسة السمع.. أرى كل شيء وكل شيء يراني.. بينما ينزع هذا الحاجز الزجاجي الشفاف عن أذني حاسّتها..
سيذهب الجميع إلى الجحيم، أنا المدير، ومالا أسمعه بأذنيّ هاتين، ستنقله إلى مسامعي أذني الثالثة “سُعاد”. لم استقطبها لمهارة تميّزت بها أو حتى لجمالٍ يصاحب صباحاتي المملة هذه، إلا أن أذناها الطويلتان بالحد الذي جزمت حين رأيتها من بعيد أنها تحب نقل الكلام، هما سبب الاستقطاب. قبيل المقابلة الوظيفية بقليل، لمحتها تجلس منتظرةً مع مجموعة فتيات وكانت أحدى أذنيها تتحرك حركةً خفيفة تشبه حركة آذان القطط. كنت أراقبها من بعيد وهي تستعد للمقابلة. لم تكن الوظيفة ذات أهمية، وكان الهدف فقط سعودة المناصب الشاغرة بأسرع وقت ممكن، فاخترتها. كانت هي السعودة، ثم صارت بالنسبة لي شيئاً يشبه الشعوذة. لطالما ارضت الشعوذة فضول الانسانِ ولطالما ارضتني سعاد. لم يكن تجنيدها بالأمر الصعب. فمن الاسبوع الأول تطوّعت في نقل حديث الكراسي والممرات وراحت تتفتح كالوردة وهي تمارس عملها المحبب “النميمة”..
تحذرني تارةً وتنذرني أخرى.. تجيء مع شروق الشمس، وتروح معها.. وهي تشبه الشمس من جهة أني أسمع بوضوح حين وجودها، وحالما تغيب تضمحل الحاسّة وأصبح كالأصم الذي يرى حديث الناس ولا يسمعه. أينك ياسعاد.. تعالي وبددي حيرتي تجاه ضحكاتهم وهمز الموظفين ولمزهم.. أشعر أن كل ضحكة هي علي، وكل ابتسامةٍ هي تخفي في باطنها ازدراء أو تملق..
لا علينا ستأتي غدا باكراً وتستقصي بمهارتها وطبيعتها أحاديث البارحة ثم تعدها إعداداً يليق بمديرها وترمي بها في واتسابه.
جاءتني ذات صباحٍ فزعة، دخلت المكتب ثم اغلقت الباب خلفها..
هييييه.. ماذا حل بك؟ ما الذي تريدينه في هذا الصباح؟ أي يوم شؤمٍ هذا الذي أطللتي علي فيه يا وجه الغراب.
يجب أن تنتبه يا سعود، الناس يتحدثون عنك بطريقة غير لائقة..
لماذا ماذا حدث؟ لماذا لم تخبريني بما عندك على الواتساب؟
أنت على علاقةٍ مع زميلتنا مريم؟ ذات الأنف الطويل.. استغرب كيف لرجل وسيمٍ مثلك أن يُعجب بفتاةٍ كمريم.. ولكن الحظ دائما مايقف بجانب الفتيات البشعات.. تبا أيها الحظ..
من أين لك بهذه الأخبار الزائفة؟ آه منكن أيتها النسوة، وآهٍ من قدرتكن على اختلاق الاشاعات..
لا عليك أخبرني ولن أخبر أحداً.. فقط قلها.. قل أنك تواعدها سرا..
آه يانفسي، كيف أقنع هذه البقرة بكذبةٍ ساذجةٍ كهذه؟ فلو دافعتها بشدة ستظن أني أضمر شيئاً وستتزايد الشكوك حولي.. يجب أن أوهمها بصحة الخبر وأشدد عليها بعدم افشائه.. دعنا نختبر قدرتها على كتم الأسرار..
نعم هو كذلك، أرجوك يا سُعاد لا تخبري أحداً وإلا سوف لن تحمد عقبى فعلةٍ كهذه.. ولكن بذكائك وفطنتك حاولي أن تصلي بالفتيات الى خلاف ذلك.. شتتيهم وانقضي الحجج التي ساقوها على رؤوسهم ولن أنسى لكِ هذا ما حييت.
حاضر ياسيدي، سرّك في بير..
سُعاد نحن على مشارف نهاية السنة وسيكون تقييمك لهذه السنةِ مذهلا..
أشكرك يا سيدي والآن يجب أن أذهب..
لملمت طرحتها واحكمت اغلاق العباءة، ثم غادرت المكتب.. كان السر كأنه يمشي أمامها حتى ولو لم أراه وأسمعه.. جلست بجانب صديقتها المقربة، تساسرا قليلا، ثم غادرا المكان..
نعم وقعت الخطئية، وانتشر خبرك انتشار العطر في الأجواء.. حتى عطورك يا سعاد لا تجذبني.. مالذي يشدك في عطورات “درعة” الرخيصة. لا أعتقد انها تفضيلات وإنما الأسعار الرخيصة تغريك أكثر من أي شيءٍ أيتها البخيلة.
مرت الأيام مروراً سريعا يشبه سرعة انتشار الاشاعات، وراحت العيون تراقب تحركاتي، ومريم ترمقني بنظراتٍ كلها إعجاب.. فتحت باب قلبها وراحت تنتظرني بحرارة.. ولسان حالها يقول متى ستأتي على جوادك الأبيض وتأخذني كما يأخذ الفارس حبيبته، بقوةٍ دافعها الاعجاب والشجاعة. تشجّع أيها المدير..
رحت أتجنبها في الاجتماعات والممرات، وأفرغت عقلي من التفكير في أمرها، ومارست عملي بطبيعتي المعتادة، أشدد على فلان وأعاتب فلانة وأشيد بفلان واسترضي فلانة.. والغريب أن طريقتي في إدارة الأمور هذه لم تتغير، ولكنها فجأةً أصبحت محط تذمّر ومحل شكٍ عند الموظفين.
صدرت لائحة التقييم وحصل الموظفون على الترقيات والزيادات بناءً على تقييم العام المنصرم، وهذا مالم يرضِ كثيراً منهم حتى مريم نفسها، رغم أني أعطيتها أكثر مما تستحق فقط لأتقي شرها. وهذا مالم يحدث وراحت بمكرها الفطري تكيد لي وتحفر الأخاديد..
غارت الفتيات من الزيادة التي حصلت عليها سُعاد، وبات جليا أنها تفعل أموراً خارج نطاق عملها أهّلتها لمثل هذا التقييم المميز وتلك الزيادة. وراح الجميع يستقصي تحركات سعاد ويتحرّاها، وكلما دخلت علي المكتب كلما انقلبت حواجزه الزجاجية إلى شاشات سينمائية تستحق الاهتمام والمراقبة.
انتصفت السنة الميلادية ونتائج انتاجية الموظفين غير مبشّرة، مما اضطر رئيس القطاع لأن يستجوبني.. حصرت الأسباب داخليةً وخارجية ووضعت قائمة بالتحديات التي نواجه، وعرّجت على بعض الدراسات التي تؤيد هذه الأسباب وتلك الحجج، ثم رميت بها على مكتبه.
ليس لهذا استوجبتك يا استاذ سعود.
إذن لماذا أنا هنا؟
أخذ سماعة الهاتف واتصل بمدير مكتبه وقال أدخل المعنيّ. لحظات قليلة مرّت وأنا أرقب وأتمنى ألا يخرج علي منه أحد موظفيّ حتى لا اضطر لكشف جميع الأوراق وربما طي قيد هذا الموظف. فإذا بها تدخل:
مرحبا سعاد، تفضلي اجلسي..
جلست بالكرسي المقابل، ورمقتني بنظرةٍ إزدرائيةٍ بغيظة. استغربت تصرفاً كهذا، ورحت استحث ذاكرتي لتسعفني بأسبابٍ منطقيةٍ تجعل من سعاد ترمقني بهكذا نظرة. ربما هي تحاول التمثيل عليه وتريد أن تظهر له خلاف الحقيقة بتصرفاتها قبل كلامها وأسبابها. ربما..
قال الرئيس:
هل كان سعود على علاقة بمريم؟ وهل كنتِ على خبرٍ بهذا وماهو الدليل؟
قالت نعم ياسيدي، والجميع يعلم بذلك، والدليل ما ستراه لا ما تسمعه..
أخرجت هاتفها، وشغلت مقطعا مسجلا للمحادثة التي دارت بيننا قبل أشهر.. نعم أسمع صوتي، ولكني لم أر التصوير، الصوت كان كافياً.. لقد كان صوتي كأنه صفارات إنذار. حاولت أن أتماسك، أن أقول شيئاً، أن أذكر الحقيقة، ولكن هل سيجدي كل ذلك نفعاً؟
الخطأ وارد يا سعادة الرئيس.
نعم وارد، ووارد أيضا أن يضع الإنسان ثقته فيمن هم ليسوا أهلاً لذلك.. وهذا ماحدث لي فعلا بتنصيبك في هذا المنصب رغم معارضة بقية الرؤساء منذ البداية.
طأطأت برأسي وراح العالم يجتمع عليّ ويضيق حتى صارت الدنيا كأنها قبر.. كنت أشبه الذي يعالج سكرات الموت وليس يطمع من الدنيا إلا بإجابة سؤالٍ واحد، لماذا ياسُعاد؟
اعتذر عن مابدر، والأمر كله إليك يا سعادة الرئيس.
اذهب وقدم استقالتك ولا تريني وجهك بعد اليوم.. وأنتِ يا سُعاد، أشكرك على أخلاقك وعلى تقديم مصلحة الفريق على كل شيء، وعلى مساعدتك لأعضاء الفريق واهتمامكِ بأمرهم. لذا من الغد، ستكونين أنتِ المديرة. وأرجو أن لا يخاب ظني فيك كما حدث مع هذا الذي يجلس أمامك.
