يعقوب

هو أول من يستلُّ سكينه طمعا في سقوط بعيرهم، ويودّ لو أعقبهم على محارمهم فانتهكها. يحب الرذيلة وينشرها، وتستفزه الفضيلة ويحسدها. وليس للمنكر في نفسه ضميرٌ يدافعهُ، وإنما مجموع ما فيه من ضمير يدفعه نحو الأسفل دائماً. عينه ليست عين عقاب ترقب السماء وتطمح لها، بل عين خنزيرٍ لا تبرح الأرض لطبيعةٍ دنيئةٍ رضيت بها ثم جُبلت عليها. هكذا كان صاحبنا يعقوب.

نشأ وشبّ في قريةٍ شرقيّة الهوى والتفكير. أهلها يزنون الناسَ والأحداثَ والأشياءَ بميزانِ الأخلاقِ فضلاً عن قطبيّ المنفعةِ أو المادة والجمال. يتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر جملةً كـ الجسد الواحد والبنيان المرصوص.

كان يعقوبُ فيهم كالقطة السوداء، نذيرُ شؤمٍ وعلامةُ شذوذ. تملّق لهم وتلوّن، ثم تمسكن ولم يتمكّن لسابقِ علم أهل تلك القرية بطبيعته المتلوّنة ونفسه المنافقة وعرقهِ النجس. هو ينتمي لعرقٍ آخر يختلف في خصائصهِ الأخلاقيةِ عنهم، ويتشارك معهم في الخصائص الشكليّة من لون الشعر والبشرة والهيئة الجسدية. ولكن ذلك لم يكن كافياً حتى تنطلي ألاعيبهُ على مجتمعه الذي يعرف تلك الشجرة المشؤومةِ التي خرج منها، ويحذرُها ويحذّر منها.

ورغم خلوّ تلك القريةِ من مفاهيم المنفعة البحتةِ والجشعِ المريض وإنكارهم إياها وتناهيهم عنها، كان يعقوبُ يتكسّب خفيةً من الربا لما في ذلك من منفعة سهلةٍ وسريعةٍ تعود عليه، متجاهلاً حقيقة شناعةِ هذا الفعلِ ومستغلاً ضعفاً في نفوس بعض أهل زمانه، فاستزلهم إلى حيث يملك عليهم أنفسهم بماله وأملاكه. وراح يقرضهم ويعصر بذلك رقابهم ويستنزف محاصيلهم ويستعبدهم تحت وطأة الفائدة المتزايدة حتى تكدّس في حجره المال ونفذت منه حجور الآخرين، فراح يصرّ بعضه إلى بعض ويتعهّده برقابةٍ صارمة وكتمانٍ شبه تام.


ثم بعد زمنٍ تجرأ وتبجّح حتى فاحت رائحة الربا وابتُليَ به كثير من السُكان وانتشر فيهم نتنهُ، ثم ضاقت به القرية وانتفخت منه جيوب يعقوب. فثار عليه أهلها ثورةً أيّوبية وطهّروا الأرض والناس من مكرهِ وجشعهِ وراحوا يهتفون به أن “أخرج منها يا ملعون“.

لقد عاش فيهم عمُراً يألّب بعضهم على بعض، ويختلق الأكاذيب، وينشر بينهم العداوة والبغضاء. وهم عرفوا منه ذلك فنهوه ولم ينتهِ، ووعظوه ولم يتعظ، وبقيَ فيهم عُمراً ينشر الرذيلة ويدعوهم إلى موائدها حتى ضاقوا به وأخرجوه منها صاغراً وذليلا.

لملم ما تفرق من ماله وكرامته ثم يمم وجهه باتجاه الغرب، واستقر في نفسه أن كل ما هو شرقيٌّ فهو عدوّ يجب مجاهدته بالدم والنار. كادت تتفتت أضراسه من شدة ما تضارست على الشرقِ ككُل. فمع كل شهيقٍ يمتلؤ قلبه بالحقد والغضب ومع كل زفيرٍ ينبثق منه نتنٌ وكراهية.

راح يبحث في غرب العالم عن وطنٍ يمارس فيه حريّاته المتعديةِ، ورجح في ظنه أن قريةً في الشمال الغربي يزن أهلها كل شيء بميزانٍ إحدى كفتيه للجمال والأخرى للمنفعة هي الأنسب. سكانها قومٌ أرواحهم فيها خفّة وتغلب عليهم البساطةَ والعاطفة والإحساس. لا يدينون بدينٍ غير دين المادةِ ولا يتخلقون بخلقٍ غير خلق تذوق الجمال والاحساس به وطلبه والتضحية من أجله. جنّتهم في دنياهم، وآخرتهم عَدم.
أتاهم يشكو أخلاق الشرق وطباعه التي حكمت عليه بأن يعيش بينهم شاذاً لا يُقاس عليه ومهمّشاً لا يُعوّل عليه. مشى الى الغرب يحمل هموماً كباراً تجاه نفسه وأقرانه الذين يدينون بدينه، فكان يخفي بعضها ويبدي الآخر ودافعه في ذلك تحرّي المصلحة العامة لبني جنسهِ وذويه. ظهر في المجتمع الجديدِ بمظهر المسكين الذي ضامته دنياه ولا حيلة له ليحتال، ولا يطمع من الدنيا إلا بالمسكن الآمن والصدقة الجارية. آووه وتعاطفوا معه بدايةً، فظل فيهم غريباً بعض الوقت ثم تطلعت نفسه المنافقةُ لمرتبة المواطنةِ حيث يصبح له من الحقوق وعليه من الواجبات مثل ما للسكان الأصليين وما عليهم. فماهي الا سنوات حتى نال مراده وصار يمشي مشيتهم، ويلبس لباسهم، ويتعلّم علومهم ويتقن فنونهم حتى أوهمهم أنه فرع عن شجرتهم وأنه يمتاز عليهم بحنكته الاقتصادية، ومقدرته العقلية. وماهي الا سنوات أخرُ قصار حتى نال فيهم مرتبة الأستاذية وشهدوا له بالتفوق والريادة.

أكبروه في نفوسهم لما صنع فيهم من ثروةٍ كان قوامها مبدأ “الدينارُ بأخيه”، والذي من شأنه ضاعف أمواله فحرّك عجلة اقتصادهم وبنى وشيّد واستثمر حتى أصبح لوحده يشاطرهم نصف ثروتهم. وأصبحت الأعناق تنثني له إكباراً وتعظيما ورغبةً فيما عنده، وصار نصف شبابهم عُمّال بين يديه والآخرُ زبائن عنده.

جلسوا بين يديه متأدبين ومنصتين، يراعون ذوقه ويقتفون أثره في جُلّ أمور حياتهم. ثم التفوا حوله متعصبين لفكرهِ ورأيهِ وعنصريّته حتى ثاروا معه على معتقداتهم وموراثاتهم وأجزاءٍ كبيرةٍ من دينهم. إدّعى فيهم العلمانية ودعى إلى الحداثة والتمدن ونبذ التراث ونقده وتبديله. فما كان منهم إلا أن تبرأوا من ماضيهم وبسطوا إليه أكفّ الولاء والموالاة. فُتنت عقولهم وقلوبهم بالماديّة التي كان يدعوا لها وبالتمدّن البرّاق الذي شيّده فيهم.

أسواق ضخمة، وطرقاتٌ معبدة، وكنائس مزخرفة، وموسيقى صاخبة، وفنّ خالع، وحريّة متعدّية وكثير من الزيف المرصّع بذهبٍ أعمى بريقهُ بصائرهم فانساقوا خلفه انسياق الماء لا شيء يقف دونه، ومالوا معه ميلةَ المهنّد على أعناق ثوابتهم فدحرجوها وأصبحوا كما يقول المثل “من يده هذه لـ يده تلك”.

ثم لما رأى منهم ذلك واستتب له الأمر، رمى القناع وقال أنا أنا. أنا المظلومُ والمضطهدُ والمستباحةُ أرضه. وراح يهيم بغير هدى ولا كتاب، يزيّف تاريخ الإنسانية ويختلق أدلةً هي أوهن في ميزان العلمِ من بيتِ العنكبوت مدللاً بها على صدقهِ. ثم استمر يدندن على هذا الوتر لعقودٍ من الزمن ويصيح ويولول حتى انصاعت له أداة إعلامهم وكبار شخصيّاتهم وتعاطفت معه النساء وانشدّ عضده بحماسة الشباب.

فما أن استمال عقولهم وقلوبهم حتى انتفش ريشه وراح يجيّش الجيوش ويدعوهم إلى رحى الحرب برفعهِ لهم راية الصليب، وزعمه لهم أنهم بهذه التضحيةِ ينتقمون لدينهم وللمسيح لا لدينه وأسباطه. فأتت الجيوشُ يجر بعضها بعضاً من غرب العالم واضعةً هذه القرية الشرقيةِ نصب أعينهم. دُقّت طبول الحرب بسواعد المسيحيين التي غذّتها أموال يعقوب وامتلأت قلوبهم بغضاً وحقداً وعنصريةً زرعتها فيهم أفكاره. اختلق لهم عدواً من العدم، وراح يحرّضهم عليه حتى صار الانضمام لهذه الحملةِ من مظاهر التقى والعدل فيهم.

ثم لما سارت الجيوش تجر معها أحقادها وطمعها في الأرض والثأر، تخلّف يعقوبٌ عنها مختبأً خلف جُبنهِ وأعذارٍ واهية. وهو بتخلّفه هذا يتشبث بالحياة ويمنّي النفسَ بأخبارٍ جميلةٍ تردّ عليه كبرياءه قبل أرضهِ المزعومة. وبينما هو جالس يتحرّى الخبر كان لـ دقّات قلبه خبطٌ كخبطِ أقدام الفيلةِ على الأرض، ودمِيت لحيته لشدة ما وقعت عليها أظافره، وانتشر القلق في نفسه حتى لم يتلذذ بمنامِ ساعة إلا وفضّت مضاجعه كوابيسٌ وأجراس. تخلّفَ تخلُّف النساء والصبيةِ، وبقيَ ينتظر انتظار قليل الحيلة وضعيف الهمّة.

وفي صباحٍ مشؤم اشتدت فيه الريح ونفثت غُبارها واكفهرّت السماء وأذاقت الأرض منها لوعةً وبؤساً شديدين، جاءه رسولُ الجيش مبشّراً: سيّدي، لقد سقطت القرية وأهلها واقفون.

استبشر واغتاظ بنفس المقدار، ثم راح يهمهم: سنفرّقهم ثم سيتساقطون تساقطَ أوراقِ الشجرةِ البالية.

أضف تعليق