
يستخف بكل إنجازٍ مهنيّ يراه من حوله، وعامل الزمن لا يعنيه منه إلا الفترة ما بين توقيت دخوله وخروجه من الدوام، وكل ما وُهِب من مهاراتٍ وامكانياتٍ وفرصٍ هي عنده رهينة الانتظار وحبيسة الأدراج. آهٍ منك يا هذا الموظّف.
رنين منبه الصباح يؤذي روحه أكثر من سمعهِ وينشر فيها التذمّر والملل، وينزل على نفسيته نزول المصيبة على المبليّ، ويفتنه عن كل متعةٍ وجمالٍ يصاحبان تنفّس الصباح وإشراقةِ شمسه، وتنحبس من الرنين أفكارهُ في تخيّل سجن العمل بلا فائدةٍ تُذكر. وهو لايزال في مكان عمله أشبه ما يكون بالسجين الذي يقضي بعض عمره مرميّا به في مكان ما، يأكل ويشرب ويتذمر وكل ما وُهب من وقتٍ وإمكانيات هي معطّلة عقاباً له على فعلته. والسجين تحت تصرف سجّانه أما هذا فهو السجين والسجّان يحبس نفسه ويتذمر من القضبان.
وفي أغلب الصباحات، يقود سيارته بسرعة وعصبية بحكم تأخره عن التوقيت الرسمي للدوام، فيشتم هذا ويحتقر هذا وتدور في رأسه ألف فكرةٍ لتحسين الحركة المرورية ليكون طريقه هو سالكاً حتى لو كان العالم كله من حوله يضج بالفوضى. لا يعنيه من العالم إلا بقدر ما يُبصر هو منه. نعم ليس من صفاته بُعد النظر وليس الإيثار شيئاً يفهمه ويتمثّله.
حال وصوله مقر العمل يقف أمام المصعد ينتظره متأففاً ثم يدحرج جسده بداخله وهو فيه كمن تصعّد روحه في السماء، ولا تكاد تفارق عينيه شاشة جواله وربما فاته الدور المعني فيزيد ذلك من تذمّره ونقمته على منظومة العمل الحديثة ويبدأ بالتفكير في حل ينقذه منها. ويتساءل متى يكوّن مشروعه الخاص وينقذ نفسه من هذه الدائرةِ المملة؟
ريثما يصل مكتبه المتواضع، يرمي بثقله على كرسيّه ويضرب على الآلة الكاتبة مسجلا بذلك دخوله ثم يستعرض بريده الالكتروني استعراضةً سريعةً وخفيفة ليحدد مهام اليوم حتى يتخلص منها بأقل مجهودٍ ولكن ليس الآن. وهذا التسويف هو أهم عيوبه كموظف.
ثم يصرف انتباهه مجددا إلى شاشة جواله حتى يتعرّف على ما استجد من أحداثٍ كان هو عنها غائباً بحكم نومه. يرد على رسائل الأصدقاء التي لا تخرج عن سؤال “وينك” وبعض المقاطع الساخرة والاختصارات المضحكة. ثم بعد مرور ساعةٍ يرفع رأسه فيجد فلاناً قد حضر وهو أيضا منهمكٌ في عملية الرد والكتابة والتنقيب عن أشياء جديدة في جواله. تربّت هذه النظرة على كتفه وكأنها تقول لضميره: أنت لست على خطأ، كل الموظفين هم مثلك. يسعد بهذا المنظر ويكره رؤية الموظفين المبكرين لأعمالهم الذين يُمطرون بريده الالكتروني بالكثير من التساؤلات ومن المهام. لا يعجبه منهم هذه الجديّة وهذا الإخلاص ولا يحسدهم عليها وإنما يسخر منهم ويعتقد أنهم مجرّد سُذج على رقعة شطرنجٍ يتلاعب بها المدراء وأصحاب رؤوس الأموال.
يغلق شاشة جهازه ثم ينزل للبوفية يجر خطاه بهدوء وتثاقل، فليس ثمة داعٍ للعجلة وقد سجل دخوله للعمل وابتدأت ساعاته بالتناقص. يأكل ما يسد رمقه ثم يعقب على ذلك بكوب قهوةٍ ينتظره طويلا في طابورٍ صباحي مليء بالموظفين المتأخرين ثم يشعل سيجارةً تدغدغ خلايا عقله المتهكم وينغمس مجدداً في عالمه الإفتراضي.
يعود بعد ساعة قضاها خارج المكتب ثم يتخذ له مكانا على مكتب زميله فيتحدثان مطولاً عن كل شيء إلا العمل والإنجاز، ثم إذا انتصف اليوم يستأذنه لتخليص المهام الموكلة إليه مادامت لا تحتاج إلا لصرف انتباهه لها. وإذا كان المسألةُ شائكةً بعض الشيء لا يتكلف في محاولة فهمها وايضاحها ثم حلّها أو ايكالها للشخص المناسب وإنما يعاقبها بالإهمال، وذلك سبب تأخر كل مشروع وفشل كل موظف.
يضطرب عندما يرى رسائل بريده معنونة بـ “العزيز فلان”، وكأنها مذكرة استدعاء إلى المحكمة، ويفترض براءته منها وأن تلك الرسائل كان يجب أن تُرسل لغيره فيخطر أول ما يخطر على قلبه اختلاق الاعذار وحمل هذه الرسالة إلى غيره أو ردها بأوهن عذر يطرق مخيّلته. نعم إنه يتملص من المسؤولية في حين يعتقد واثقاً في مواقف أخرى أنه أهلٌ لها.
هو يظن أن هذه المهام الروتينية اليومية ليست انجازاً يُمكن أن يحقق ذاته من خلالها ولايزال ينتظر الانجازات الكبيرة ويعتقد أنه سيجد نفسه فيها. وفي نفس الوقت يفشل كل يوم في تحقيق أي انجاز حقيقي قد يؤهله لتحمل مهام كبيرة. ويعزو فشله ذلك إلى أنه ليس ممن لديه معارف يقربونه من صناع القرار ولا يقف الحظ إلى جانبه ولا يعرف لماذا. هو فعلاً يكرر هذه التساؤلات بحسرةٍ في كل مرة تُعزى المهام الكبار لغيره من الموظفين.
أما الموظف الأجنبي فينزل من عقلهِ منزلة الرجل الفضائي الخارق، والذي يملك من الإمكانات ما ليس يستطيعه هو وأبناء وطنه، ويؤمن في قرارة نفسه أنه لن يكون بهذا المستوى من الحرفيّة فقط لأنه ليس بأجنبيّ. وهذا سبب قصوره وتقصيره، فهو لا يملك من الاعتداد بالنفس ما يجعله ينافس هؤلاء الأجانبِ من شرق آسيويين ومن أمريكان وأوروبيين، فاستسلم لتفوقهم وركن إلى الهامش.
ثم إنه راح يتملّق لمدرائه ويداهن الجميع ويهدر جل طاقته في تقصّي أخبار فلانٍ وفلانة، ويحتاط لنفسه احتياط اللص وهو في قرارةِ نفسه يعرف حجم تقصيره وسذاجة تصرفاته لما يفتقر من الثقة التي تؤهله لأن يناطح الصِعاب حتى ينيخها. وحينا يتملص من هذا الشعور مدّعياً أنه يجيد ما ليس موكلاً إليه ويزهد بما بين يديه من واجبات. كحال الخباز الذي يتكلم بثقةٍ في السياسة والثقافة والرياضة ويقترح وينتقد، وهو عاجز عن إنتاج خبزٍ يليق بمهنته كخبّاز.
فهو عالةٌ على علاقاته أكثر من مهاراته، ولا يزال يطمع بمنصبٍ أفضل في هذا المكان الذي شد فيه حبال الصداقة مع المدراء، أما فكرة البحث عن مكان عمل آخر فلا تخطر له على قلب. ..
وهو كذلك ولا تزال تتناقص أيام عمرهِ وتقلّ مع الأيام الفرص وتذبل معها مهاراته التي لم ينمّها بالقدر الذي يجعل منه موظفاً مهنياً جذاباً لفرص الاستقطاب في الجهات الأخرى، وهو لاهٍ عن هذا كله ينتظر بشوقٍ اليوم الذي يبتسم له فيه الحظ أو يُحال فيه إلى التقاعد حتى يتسلم شيكَ نهاية خدمته ويبدأ على زعمه في الاستثمار وبناء مشروعه الشخصي الذي طالما حَلُم به. وعندما تضطره نفسه لمواجهتها ورسم حلمه المنشود على الورق، يهرب ويسوّف ثم يردد بجهلٍ: أعطني مالاً وسترى كيف أصنع به.
بسذاجة الإنسان المادي المعاصر هو يعتقد أن المال وحدهُ حلّالٌ للمشاكل وسبب نجاح كلّ مشروعٍ، ويجهل هذا البائسُ أن الثلاثي الأساسي في نجاح أيّ مشروع ماديّ بعيداً عن ضخامته أو ضآلته يتلخص في ثلاثية (الانسان والتراب والزمن)، وأن الإرادة تكتشف الإمكان.
أنت أيها الموظف الإنسان ومحلّ الإرادة، والتراب هو الموارد التي بين يديك ابتداءً من الأفكار الخلاّقة والموارد الطبيعية وانتهاءً بشاشة حاسوبك، والزمن هو الوقت الذي يمضي ولا يعود ويأتي على كل شيءٍ ويفعل فِعلهُ فيه. فمن الواجبِ عليك أن تتخذه شراعاً وتكون له مركباً حتى يُريك منه العجائب وينزل بك على سواحل الأحلام. ولسنا نجهل أهمية إدارة الوقت في تسهيلِ كل صعبٍ وإنجاز كل عملٍ مهما بلغت ضخامته. وما زهد إنسانٌ بإمكانياته وبالوقتِ إلا خاب مسعاه.
وتذكر دائما أن “مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة”.
