
الصخرُ الذي يتفتتُ ليس كمثلِ عزيمته، والهمّةُ التي لا تعانق السحابَ لا تليقُ به، والحُلم الذي لم يتحقق وكان يطلبه مسرعاً، لقيَ منه حتفه.
أولدته الحياةُ ثم هي عنه تخلّت، وهي بذلك تشبه أمهُ التي بعد أن أنجبته مات عنها زوجُها فلم تطقِ الحياةَ بدون رجلٍ يكون لها مصدرَ قوةٍ وحياة، فاختارت أن تكرر التجربة وتتزوج رغم سابق علمها بأن ذلك كان يترتب عليه تركُ هذا الصغير لنفسهِ ولأسنانه اللبنية التي لا تقطع لحماً ولا تضرس خبزاً ففعلت. ثم طوت صفحةً كان هو موضوعها وأحلى مافيها وراحت تكفكفُ دموعها وتنشد مستقبلاً أكثر رحابةً ينسيها الذي كان.
وهو من بعدها من الضعف والهشاشةِ لا يطمع من الحياةِ إلا بثديها، وحضنها الذي لم يجده حين بكاه. بكاهُ حتى أضرّت بخديه الناعمين حرارةُ دموعهِ، وفار دمُه داخل جسدهِ الغضّ الطريِّ ولزمته الحُمّى حينَ استنشقَ هواءَ العالمِ كله فلم يجد لرائحةِ أمهِ فيه من أثر.
أينَ هيَ، ولماذا تركته لثديٍ لا يحبه، وجسدٍ لايقوم عليه إلا كما يقومُ على واجبٍ من واجباته، أو شيءٍ من أشيائه. في كل ليلةٍ يأتيه جسدها متململاً لا عاطفةَ تُرجى منه، وبارداً لا حنانَ فيه، وذابلاً لا رائحةَ له. فما أن يحتويه حضنها البارد حتى يتحسسَ هو بغريزة البقاءِ ثديَها تحسّس العميان ثم يبتلعه لما ألمّ به من جوع، فلا يجود عليه هذا الثديُ إلا بقطراتٍ هنّ آخر قطراته، قليلةٌ لا تشبعُ ولا تغني من بردٍ ولا جوع. فـ تعاوده على جوعِ بطنهِ وهشاشةِ حالهِ الغصّةُ بعد الغصّة ويتراكمُ عليه الحزنُ فوق الحزن، ويجتمع له جرّاء ذلك: الإهمالُ من الناسِ والهوانُ على الناس.
زارته أمه عندما بلغ السابعة، وذلك بعد أن تركته لسنواتٍ كان يصارعُ فيها الحياة وحده، فراح بفطرتهِ يرجمُها بالحجارةِ وكأنه بذلك يريدُ القصاصَ منها وتطهيرها من جرمٍ هو أكبر في رأيهِ من الخيانةِ وأعظم من الزنا.
كبُر وشبّ كما تشب الذئابُ وحيدةً وطريدة، إلا أنه لا ذائدَ له بمثابةِ النابِ والمخلبِ من الذئب ليذود عنه ويكون له سِلاحاً وقوةً، وإنما أوكلته شجرةُ العائلةِ لمن هو في حكم الوليّ وكان ذلك حِكراً على خاله، وليس ثمةَ داعٍ لاستحضار المثل المشهور المضروبِ بولاية الخالِ والدّالِ على ضخامة الأمرِ وخلوّ الموكلةِ إليه من مسؤوليةِ القيامِ بها حتى وإن فعَل.
سلمته الأيام لمن لا يحنُّ عليه ولا يهتمُّ لأمره إلا بقدرِ مايقدّم هو من تضحيات. فما زال يكبر حتى فطِن لاستثقال أهل البيت له ونقمتهم على وجوده في غرف البيت وحول سُفر الطعام، فقرر أن يهرب من نظراتهم الناقمة ومن الهمز واللمز. فحمل نفسه على رعي الغنمَ على صغر سنٍ متودداً بذلك لهم، وراح يستأنسُ بسعةِ الصحراءِ وكرمها بعيداً عن كل عين وقريباً من نفسه ومن تلك العجماوات. فكبُر جسمه وعقله بالتوازيٍ وتكاثرت الشياهُ من حسن رعايته وبركةِ تصرّفه حتى صارت تملؤ ما بين جبلين. فامتلأ قلب خاله له حبّاً وراح يتوددُ له أكثر من زوجهِ وعياله، ويخصّه بجميل الكلامِ وأفضل الطعام. فتنامى الحسدُ في قلوب الأبناءِ حتى ضاق بهم صاحبنا ذرعاً فقرر الرحيل.
ولكن إلى أين؟ أيُّ الجهاتِ ستكونُ أكثر رأفةً به وهو الذي عنه تخلّى الناسُ بل كلّ الناسِ وأعز الناس.. أين سترمي به الأقدارُ وفي أي حضنٍ باردٍ وموحشٍ سيستقر؟ راودته الوساوس حتى ظنّ العالم كله هو محصورٌ في هذه البقعةِ وهؤلاء الناس، ولكنه هشّ بفطرتهِ ذباب الوسواسِ بالتوكل على ربّ الناس، وعزم واحتزم.
انبزغ فجرُ أحد أيام صيفِ نجدٍ الحارةِ وتفجّر النور في الأرجاءِ، واختفى خلفَ شمس النهارِ قمرُ البارحةِ وكأنه كان حلمٌ زالَ باستيقاظ صاحبه، وكذلك منصور. كأن شيطاناً انتزعه من بين بني جنسهِ بسرعةِ البرق وخفّته، فأصبحَ ولا أثر له.
ضاقت به الباديةُ وقلوبُ أقاربه على قلّتهم، وأرض الله واسعة، فـ راح ينشد سعةَ المدينةِ وتعدد خياراتها.
والحسد هو وليدُ التقارب. فكلما ضاقت دائرة الإنسانِ وقلّ أعدادُ أفراد محيطه، كلما زاد حُسّاده وتضارست عليه الأنياب. ومن هذا المبدإ قرر صاحبنا أن يوسّعَ الدائرةَ ويهجُر الأرضَ وأهلها، راجياً أن تُحسب هذه الخطوةُ له هجرةً محمودةً يُثابُ عليها ويُفتحُ له فيها ويُبارك.
دخلَ المدينةَ وهو في عنفوانِ شبابه والشعرُ للتوّ قد بدأ يحدد ملامح رجولته وينقله تدريجياً من أرصفةِ المراهقةِ إلى دواوين الرجولة. صالَ في شوارع المدينةِ وأسواقها صولةَ الجاهلِ الجريء، فراحت تضربهُ بيمينها وشمالها وهو يراودُها بقوة وشجاعة. لا راياتٌ بيضٌ تُرفع وليس ثمةَ خطٌ للرجعةِ يُعوّل عليه. فكان لابد من المضيٍّ والمضي وحده.
وبعد بضعِ سنين اكتوى فيها بنار التجربة حتى اشتدّ عودُه وأصبح شيئاً آخر يكادُ يشبه مدينةً كائنةً منذ كان التاريخ، ممتدة الجذور وعريقة الأصل وكثيرةَ التفاصيل. حين أدرك هذا المعنى من نفسه ومن هذه البقعة من الأرض التي تُسمّى مدينة، عزم على أن يوطّد علاقتهُ مع الزمانِ والمكانِ بأواصرَ تشبهُ هذه التي جعلت من المدينةِ مدينةً ذات أبعادٍ أصيلةٍ وقديمةٍ ومستمرة.
وهو قد أُنتزع بغير رغبةٍ من شجرةِ عائلته انتراعاً تمزّقت منه روابطُ الرحِم، ثم هو بعد أن كبُر إشتلّ بمحضِ إرادته بواقي الجذور مع محيطه وصار شيئاً مستقلاً كأنه بذرةٌ يجب أن تُغرس وتُسقى لكي تصيرَ شجرةً مستقلةً كثيرةَ التفاصيلِ وممتدةَ الجذور. والبذرةُ الإنسانيةُ لابد لها من حاضنةٍ تستقر فيها ثم تنمو من خلالها وهذا لا يتسنى للإنسان بدون الجنسِ الآخرِ منه. فالرجلُ لابد له من امرأةٍ حتى يستمر ويخُلد وإلا عاش وحيداً وعالةً على حاضر زمانه، وفي مستقبلهِ ترمي به آلة الزمنِ في غياهب النسيان.
والتاريخُ لا يحترم إلا أولئك الذين جرى في نسلهم وامتدّ بامتدادهم، لذلك قرر صاحبُنا أن يتزوجَ ويُنجبَ ويكوّنَ شجرةَ عائلتهِ الخاصة، رغم تحفّظه تجاه وفاء النساءِ وولائهنّ والذي كان سبب تحفّظهِ وتردّده فعلةُ أمه.
أرّقهُ هذا المشروع وعظُم في نفسه حتى تردد في طرقِ كل بابٍ قد يؤدي إليه، فـ ساقته الأقدار من حيث هي أقدارٌ مقدرةٌ قبل خلقِ السماواتِ والأرض إلى باب بيتها، ثم ساق هو بدورهِ إليها حُمُر النعِم، فحظيَ بها فكانت له سعةً بعد ضيق، ودفأً بعد برد، وعاطفةً بعد جفافٍ وقحطٍ شديدين، وسعادةً بعد حزنٍ طووووويلٍ وعميق.
وكأنه بعد ارتباطهِ بها للتو قد دلّ القبلة. توجّهت جهوده وأفكاره وتفاصيل حياته تجاه هدفٍ واحدٍ فتجمع لهذا الهدفِ ورمى بكل ثقله فيه ومازال يُكبّر هذا الهدَف ويَكبُر هو معه حتى صار له من الأولاد والبنات مجموعة. فأصبح يرى نفسه متكررةً بعدد أبنائه وبناته. فكلما ضحِكوا، ضحكت نفسه بعدد ضَحكاتهم، وكلما تألموا وحزنوا حزُنت نفسه بعددهم أيضا. تضاعفت له السعادةُ وتضاعف له الهمُ والخوفُ على مستقبل هذه الشجرةِ التي بذرها وغذّاها وامتدّ من خلالها ولازالت تتمدد بتمدده.
وفي ساعةٍ كأنها قد سقطت من حيّز الزمان منذ خُلقت آلة الزمن، وفي مكانٍ يشبه لوحةً تراجيديةً أبكت كل من تسمّر أمامها وفهم معانيها وأحاط بتفاصيلها، فهي جامدةٌ وخاليةٌ من عنصر الزمن ولكنها مؤثرة بفعل الشكلِ الذي تشكّلت به. في ساعةٍ ومكانٍ مشابهين: اصطدمت سيارته التي كان يقودها بسرعةٍ جنونية بأخرى أكبر منها وأضخم، فما كان من سيارتهِ إلا أن ودّعت الأرض ومن عليها وتقلّبت داخل عاصفةٍ رمليةٍ أحدثها هذا الاصطدام المروّع ثم استقرت على الأرض وكان صاحبها قد دخل في غيبوبة. كانت روحه حينها متذبذبةً ومترددةً بين السماءِ وبين جسده المتهالك، وهو في لحظتها كان يستجدي هذه الروحَ لتستقرّ في جسده حتى يرسل من خلالها دعوةً واحدة.
تتردد الأنفاس في صدره تردداً ضعيفاً، ويغيب الوعي عنه إلا من لحظاتٍ قصار يجمع فيهن عقله له فيها وجوه أفراد عائلته فينهار مجدداً ويغيب عنه الوعي. لمن ترك هؤلاء الصبية؟ ولماذا لم يفكر في لحظةٍ مثل هذه؟ لماذا لم يخطر الموت على قلبه حين رسم لنفسه حلماً كهذا؟ أتتكرر بهم التجربةُ نفسها؟ أتهجرهم من بعدهِ أمهم وتستباح بيضتهم؟
استجمع كل أملٍ وكل محبةٍ ورجاءٍ وخوفٍ في صدره وأرسلهُ على شكل دعوةٍ طائرة. رأسها الحب، وتحلّق بجناحين من خوفٍ ورجاء، وقال: اللهم إن لم يكن يتربص بهؤلاء الصبية الذين تركتهم خلفي مصيرٌ يشبه مصيري، فلا أبالي أن فاضت روحي ما دمت أنت عليهم وكيلاً وأمهم بهم أرحم من أمي. أطلق هذه الدعوة فطارت هي وروحه إلى السماءِ جنباً إلى جنب.
