
في يوم المرأةِ العالميّ، احتفلت بها جداريّةُ الشركةِ التي تعمل فيها بملصقٍ جميلٍ يحمل رسالةً تقول “لكِ مكانة”، ونبتَ بفضل التهاني والأمنيات المتنوعةِ على مكتبها الوردُ والحب، و تأنثت الأشياءُ ومالت و تغنّجت في صباح ذلك اليوم المؤنثِ بإجماع العالم كله.. بل وتكاد تتغنج وتتأنث وتميل نحوها كلُ الأشياءِ عندما تشرق هيَ على الشوارعِ والممراتِ مع إشراقة شمسِ كل يوم عملٍ جديد.
آيةٌ في الحُسنِ والجمالِ والأناقةِ. متوقّدةُ الذكاءِ وسريعةُ البديهةِ ويكاد يضبط الموظفون ساعاتهم على توقيت حضورها وانصرافها من شدة انضباطها بالوقت، وكأن تكاتِ كعبها على الرخام هو عداد الثواني الذي فيه تتشكل الدقائقُ والساعات لمن حولها. رائعةٌ إلى حدٍ بعيدٍ لم تصله قبلها أنثى من حيثُ هي فاتنةٌ وذكيةٌ وعصريّة.وفي كل صباح يومٍ جديد، تستقيظ قبل موعدِ عملها بسويعاتٍ تقضيها في حمامٍ دافئٍ تسعد بها قطراتُ مائهِ بقدر سعادتها هي بتلك القطرات، والعلاقة بينهما كأنها علاقةٌ ذات مصالح مشتركة يأخذ كلٌ منهما حظّه من الآخر، ثم تجلس أمام المرآة وهيَ بين مستحضراتٍ تجميليةٍ وعطوراتٍ فوّاحةٍ وملابسَ جذابةٍ يقع اختيارها عليهن بشكلٍ مضبوطٍ ضبطاً أنيقاً تراه ظاهراً عليها وكأنها قد خُلقت به.
وكلّ شيءٍ في حياتها هو في مكانه الصحيح أو على وجهه المثالي. ملامحُ وجهها، حواجبها، وضعها المادّي، مكانتها الوظيفية والإجتماعية، مسكنُها، علاقتها بأبويها وأخوتها وعلاقتها بالأصدقاء وكبار الموظفين. كل شيءٍ يبشّر بالنجاح والتفوّق والسعادة. ورؤيتها تجاه حياتها العمليةِ ومسارها الوظيفيّ رؤيةٌ طامحةٌ ومبشّرة، وكأن لها بوصلةً قد ضُبطت باتجاه التفوّق والنجاح عوضاً عن الشمال.
والإرتباك والحيرةُ لا يجدان إلى تفاصيل يومها من سبيلٍ إلا حين تزاوجٍ في الإستخدام بين هاتفيها المحمولين. ففي الأول اختارت أن تظهرَ هيَ هيَ كما في واقع أيامها امرأةً عصريّةً جميلةً مستقلةً وذاتَ مكانةٍ اجتماعيةٍ ووظيفيةٍ يُشاد فيها باللسانِ ويشارُ إليها بالبنان، وفي الثاني تختبئُ خلفَ عاطفةٍ جيّاشةٍ تجاه نصفٍ ذكوريّ تكمّل به نقصا في طبيعتها و تطوي معه قادمَ أيامها وتستند عليه في أحلك ظروفها، وتطمح من ذلك في أن تجد لحنانها الفطريّ المتدفقِ موضعاً تجاه أطفالٍ تربّيهم وبيتٍ تكونُ فيه هي صاحبةُ الشأن وهي المتصرّفُ والمسؤول.فبينما هي مترددةٌ بين هذا وذاك حتى تأتيَها نغمةٌ جذابةٌ تستحوذ على لحظتها من هاتفها الأول، وتحملُ في طياتها إشادةً من رجلٍ مجهولٍ بإنجازٍ وظيفي قد نشرته هيَ مؤخراً على أحد منصات التواصل، والإشادةُ هي في ظاهرها إشادةٌ وفي باطنها طمعٌ وتملقٌ ومجاملةٌ واستدراج، لينطفئَ بها شيئٌ من رغبتها في بذل عاطفتها وتحقيقِ أمر خلافةِ الإنسان واستخلافه، وليلُهم حماستها في دفع عجلة التنمية المتوّهمة التي صنعها الإنسانُ وجيّر لها جلّ طاقاته حتى أصبحَ كأنه فرعٌ عنها. فما إن تنقضي هذه النشوةُ المؤقتةُ التي تتغذى عليها بين الحين والآخر حتى تغرقَ في موجةٍ من الإرتباكِ والحيرة بين الرضى وعدمه، وبين العاطفةِ والواقعيّة، وبين المرأة الأم والمرأة العصريّة.
وهذا له ما له من ماضٍ طويلٍ راح ضحيّته زهرةُ أيامها حتى باتت مقبلةً على أبواب قفص الفرديّة الحتميّة والعُقم الإختياري الذي دخلته بمحض الإرادة وبسبب قلة الرجالِ وكثرةِ أشباههم. فهي إن استدارت وتفرّست في وجوه وتصرفات من حولها من الذكورِ خلُصت إلى أنه ليس ثمّةَ رجلٍ يفرضُ عليها أن تكونَ امرأةً في حضرته لمجرد كونه رجلاً محافظاً على سماتِ الرجل العامةِ من وقارٍ واتزان ويزيده رجولةً في عينها حياءٌ يلازمُ حركاتهِ وسكناتهِ ونظراته، وإنما الأغلب كما ترى هيَ مجردُ دمىً كثيفةُ شعرِ الوجة، ثخنةُ الصوتِ، كثيرةُ الهزلِ وخفيفةُ العقل، وهي بينهم كأنَّ لسان حالها يقول (وهم بين عقلي وحيلتي رجالٌ لا عقول لهم، وأنا بين أهوائهم وحماقاتهم امرأةٌ لا ذات لها)
حتى وإن ألقوا عليها تحية الصباح بابتذالٍ وتصنّع، وإن احتفوا بها في كل مناسبة بسببٍ ظاهرٍ أو مختلق، وإن أظهروا مالا يبطنون، هيَ ترى في أعينهم رغبةً ليس هذا محلها، فالكل مفتونٌ بمظهرها وكأن لا ذاتَ لها.. وهي وإن أظهرت الحفاوة والسلوان تظلّ منهم في حسرةٌ، وهم منها في طمعٍ غادرٍ ومُشين.
وهي في حيرةٍ أكبر من سابقتها عندما تقارن بين المرأةِ الأم والمرأة العصريّة، فهي إن نظرت في واقع أمها وكبار نساء عائلتها بشكلٍ عامٍ، أعجبها ماانتهت إليه حياتهن من إنجازاتٍ غيرُ مشادٍ بها على طاولات الإجتماعات ولكنها إنجازاتٌ حيّة وأثرها يجري على الأرض ويتنفس ويعيش ويغيّر. وهذا كله بفضل العاطفةِ التي وُضِعت في محلها فأولدت لهن سعادتهن ثم أرضعنها وهنّ مكرهاتٌ وصابرات، فكان نتيجةُ ذلك أنه كلُ ماتقدم بأحداهن العُمر كلما تضاعفَ لها الحُب والتقديرُ والإجلال. ففي نهاية المطاف، كلُ عقالٍ يُرفع لهن تقديراً وإجلالا، وكل رجلٍ يبسط لهن جناح الذل من الرحمة والمحبة بصدقٍ واختيار.
وهي من مستقبل المرأة العصرية مرتبكةٌ وتكاد تأكل الحيرة والضبابية قلبها وعقلها المتوقدين. فليس ثمةَ نموذجٌ للمرأة العصريّة حقيقياً ومجرّباً تقيسُ عليه وتباعد وتقارب إلا النموذج الغربيّ. وهذا النموذجُ بعيدٌ عن روح ثقافتها وأسلوب مجتمعها وله أجندةٌ أنانيةٌ وغير نزيهةٍ وتختلف في أصلها وفروعها مع أجندتها. فالمرأة هنالك حق المرأة، هي حصاد إنجازاتها الماديةِ الملموسةِ من وظيفةٍ تشغلها ومالٍ تدخره وأشياءَ تستطيع شراءها وعلاقاتٍ عاطفية متفرقةٍ تُشبع فيها رغباتها وتستعيض بها عن مشروعٍ متكامل كثير التكاليفِ يُسمّى الزواج. وذلك ما لم يقع من قلبها وعقلها موقعاً ترضاه بحكم شذوذهِ عن فطرتها وبحكم أنانيّته المبتذلة. فليس أبغض إلى هذا المجتمع الذي تعيش هيَ فيه من الشخص الأناني وليس أهونُ عليهم من المرأة العزباء. والعزباءُ في نظرهم هي امرأةٌ إما عُزف عنها لعيبٍ فيها أو أنها اختارت الوحدةَ والأنانيّة عن قناعةٍ فكانت بذلك جامعةً لأسبابِ الهوانِ والبغضِ والإزدراء عن قناعة.
**ها هي الآن تقف على أطلال الثلاثين وحيدةً والحيرةُ قد بسطت فوقها أجنحتها كنسرٍ يراود فريسته عن نفسها، والضبابية استحوذت على رؤيتها كـداءٍ قد فشَى في عينيها فأفقدها جُلّ بصرها أو بعضه، والعالم كله من حولها يضجّ مفتونا بالمال وبالنساء وهي عن فتنة المال بمعزلٍ لأنها محيطةٌ بأسبابه ولأنها في مجتمع تُعال فيه ولا تعيل، وهي قد أحاطت بأسباب افتتان العالم من حولها بالنساء حيث أنها أكثرهن فتنةً وأقدرهنّ على قلبِ هذا العالم الذكوريّ رأساً على عقب ولكن..
لاتزال تقف وحيدةً كأنها نخلةٌ في صحراءَ مقفرة. صحراءٌ لا شجر فيها ولا ماء، والسماء من فوقها كأنها أيضا كفّت يدها وتخلت، فلم تجُد بخيراتها وتبلل الأرض من تحتها منذ سنوات. تهفّها سموم الصيف فـ تنحت جسمها نحتاً يضعِفها فتميل معها ولكنها أبداً لا تنكسر.. وتضرب جذعها هبوب الشمال فلا تُذعن ولا ترتجف.. صامدةٌ كالنخلة وشامخةٌ كالسماء ووحيدةٌ كالقمر.
