عُكّاز

كان دوماً مضربَ مثلٍ على الأدبِ وحُسنِ الخلقِ وسماحةِ النفسِ صاحُبنا داوُود. يشبه بتمثلهِ وبخُلقهِ رمزيةَ تمثالِ الحرية بالنسبة للأمريكان المهووسين بطلب الحريّة والدفاعِ عنها حتى نصبوا لها تمثالاً والتفّوا حوله. وداوُودٌ كذلك التمثال برمزيّته لحُسن الخلقِ والأدبِ والسماحةِ بالنسبة لمحيطهِ وأغلب أبناء مجتمعهِ الذين يعرفونه عن قُرب فالتفّوا حوله وأحبّوه. هذا النحيلُ الذي لا يكادُ يشعر به مستضيفهُ لخفةِ روحهِ وطغيان صمتهِ على فلتات لسانه، لو لم يكن له هذا الحيّزُ الجسدي المتهالك من كثرة الصومِ والمشي إلى بيوت الله، لم يكد يُدرى بوجوده لانعدام أثره في الحياة المادية الواقعية إلا من خطواتٍ ترسمها قدميه على الأرض وبصماتٍ تتركها يداهُ على الأشياء وهمهماتٍ يطلقها على استحياء. وهو في خفّتهِ واستحيائهِ يشبهُ معزوفةً موسيقيةً لها بُعدٌ زمانيّ تُعرف من خلاله ويستحيلُ أن يحيطَ بها مكان.

لشدة مااستوطنتهُ السكينةُ وبانت على ملامحِ وجهه، كأن مساماتِ ذلك الوجهِ قد سكنت من سكون صاحبها فلم تتجرأ وتنبت شَعْراً يزيّن وجنتيه، وبقيَ وجههُ أجلدَ مثلَ باطنِ كفّه. وشَعر وجه الرجل في المجتمعات الشرقيّة المتبدوية يكون بمحلّ السيف والدرع والرمح منه. فهو إن كان أجلد أمسى كالرجل الأعزلِ من السلاح الذي هان على نفسه وهان على غيره، فيطمعُ به الرجلُ الجبان المتسلّح وهو أهون على الرجل الشجاع من أن ينظر إليه.

وصاحبنا هذا بأخلاقهِ كان في قومه بمنزلة الرجل الصالح فيما قبل الإسلام والذي بعد أن ماتَ خلّدوه بصنمٍ يحمل اسمه وأوصافه، واستشفعوا فيه عند بارئهم لشدة ماعَهدوا عنده من البّر والتقوى مالا يوجدُ عند غيره من أبناء جلدتهم الأحياء. وهو إن تهادى في طريقٍ افسحوا له عن إجلالٍ يحملونه له في نفوسهم، وإن اشترى سلعةً بيعت له بأقل الأثمان، وإن خطب زوجوه وإن رضي رضوا برضاه، وإن غضِب غضبوا له وذادوا عنه بما يذودون به عن نسائهم وصغارهم.
وأضحى هذا حاله في مجتمعٍ لا يحمل فيه أحدهم هماً أثقل عليه من طلب السمعة الحسنة ولا يطمح أحدهم إلى أبعدَ منها، وكان له منها الحظ الأكبر والنصيب الأوفر.وفي منتصف عشرينياته تمّت له عمليةُ تنصيبٍ استثنائيةٍ على عرش صالحي زمانه بلا منازع، بعد أن ذاع خبرُ رؤيته للمصطفى عليه صلوات ربي وسلامه في المنام.في سويعات السحر وتحت ستارٍ من أحدى لياليَ رمضان الهادئة، غفى بين القيام والفجرِ فرأه والشيطانُ لا يتمثل به، واستيقظ وهو موقنٌ بصدق ما رأى ومستبشرٌ بما رأى وكأن هذه الرؤيا جاءت لتؤكد صدق مساعيه وإخلاص نيته وصلاح سريرته. جاءته كأنها تبشّرُهُ بأنْ نجوتَ وربِ الكعبة. فما كان منه إلا أن طار بها فرِحاً حتى كأنّ الناس رأوا في وجهه تفاصيل ذلك المنام المُبارك من شدة فرحهِ بهِ، وكثرةِ تحديثه. وكل نفسٍ تتطلّع بقدر مافيها من إيمانٍ ومحبة ليُكتبَ لها ماكُتب لداوود وهو كمن حقق لمحبيه نصف الأمنية وارتفع بهم فيما تحقق له إلى سماءٍ فسيحةٍ من الأمل والرضا والقبول.
طاش عقله فرحاً واسفهلّت أساريره وغبَطه خلقٌ كثيرٌ على ماتحقق له، وعلى ماهو مقبلٌ عليه، وهو لا يلوي على شيءٍ إلا تعزيز مكانته وترسيخ إيمانه ولسان حاله يقول “أفلا أكونُ عبداً شكورا”..

والشكرُ عملٌ قلبيٌّ بامتياز، تتفاوت فيهِ القلوب تفاوتاً بيّناً لا يكاد يخطئُه ناظر ومتفرس، وهو ظاهرٌ على وجه الرجل وتصرفاته حتى وإن إحتاط أشد الحيطةِ لإخفاء دلائله خوفاً من الرياء. والذي يُجاهر به لا تخطئه الشبهات وعلامات الإستفهام المصحوبة بالإزدراء المبطّن، وصاحبهُ مفضوحٌ حتى ولو بدّل مثل الحيّةِ جلده، أو تلوّن للآخرين تلوّن الحرباء. وأعمال القلوب يلزمها الإخلاص الذي به تكون نوراً يُهتدى به، وبدونه ينقلبُ كل شيءٍ إلى ضده، النور إلى ظلام، والهداية إلى غواية، والمحبةُ إلى عداوة، والطهارةُ إلى نجَس.

وسنّة الله باقيةٌ تدلّ عليه منذ أن خلق الدنيا، وهي واجبةٌ على كل شيء قلّ أو كثر، عظُم أو صغُر، إلا وأتت عليه وبدّلته كما تبدل فيها قوما مكان قوم، وقلّبته كما يتقلّب في أيامها الليل مع النّهار.فما هي إلا سنوات قليلة حتى مالت بصاحبنا كفة العُجب والاتكال، فضمُر منهما سيرهُ في الميادين التي بها علا شأنه وكبُرت حضوته ودانَت له الناس.. وهذه آفةٌ وأيّ آفة ومصيبةٌ وأي مصيبة!!ألا إن لإبليس حبائل تجري من ابن آدم مجرى الدم وألا إن للنفس شهواتٍ تتجدد وهوىً يصعُب ضبطه، وهيهات أن يجتمع إبليسٌ وهوى ثم تكون عاقبة ذلك خيرا.خفّ مشيُ صاحبنا إلى المسجد وزهد في صيام النوافل بدايةً، ثم استكثر من الكلام حتى انطفأت سكينة وجهه واسودّ كل بياض عُهد عنده، واكفهرّت ملامحه السّمحة وبان في تصرّفاته الخلل وفي أخلاقه النقص والزلل.فذلك الحُلم الذي كان يجبُ أن يكون محفّزاً، صار متكلا يتّكل عليه، ومثبطاً للعزائم ومفتتاً للهمم.
أصبح به كمن أُعطيَ عكّازاً يتزيّن به فأخذه إلى أبعد من ذلك واستراح لوجوده، فما هي إلا أيام حتى اعتاد عليه وصار بدونه يمشي مشيةً عرجاء ولم يعد يذكُر كيف كان يمشي قبله.

ثم بعد ذلك بزمن، مال ميلةً واحدةً نحو تمثال الأدب والأخلاق والسماحة فهشّمه وتركه جذاذاً ودليلاً على كفره بكل ما يبتّ بصلةٍ لشخصه القديم. تطرّف في انتقاله من ضفةٍ إلى ضفة، وفي تبنّيه لمنهجٍ على آخر. والتطرّف ليس عرضاً حادثاً في شخصيّته، ولكنه كان شيئاً يسير به نحو معالٍ من الأمور، وبقدرةِ قادرٍ أصبح يهوي به إلى دركاتٍ من السفالة والدبور.من طبيعته الطينيةِ الراكدة ومن باب الأفضليةِ المفترضة جاء إليه إبليس فثبّطه وأخلدهُ إلى الأرض بعد أن كاد يعانق السماء. وكأني بإبليس يستدرجه من حيث استدرج كثير من بني جلدته، يمدّه بأسباب فعل الشيء أو تركه ثم يطفئ لهيب احتجاج عقله وضميره بأنه أُختص بما لم يختص به غيره وأن له مكانةً تؤهله لحريةٍ أكبر في التعاطي مع الناس والأشياء وأن التجربة خيرُ برهان.

بدأ يكذب، ويجد للكذب تبريراتٍ معتبرةً في نفسه، ويرائي بعد أن كانت نظرة الناس لا تجد في أعماله حظّاً ثم يبرر ذلك بأن البعض يتخذه قدوة وهو محكوم بذلك، ويتجرأ ويرتكب المحرّم والممنوع فيجد من المبررات الكثير، حيناً يعدّ ذلك من باب التجربةِ وحيناً يأمل على رحمة الله وأنها قريبٌ من المحسنين، ويصرّ على الذنبِ ثم يتوقع العفو والمغفرة. وأيّ إحسانٍ وعفوٍ ومغفرةٍ ترجو ياداووُد.. لقد تدرّج في السقوط حتى انتهى به إسرافه لأن يصبح حاضنةً للفساد ومروّجاً لكل ممنوعٍ ومخالف، وكاسباً جلّ رزقه من هذه الممنوعات.

هذا الاستدراج الذي انطوى عليه بدايةً أصبح روتيناً لايحيد عنه ومصدرَ رزقٍ لا بديل له. ومن سقوطٍ إلى سقوط، والزلة تجرّ أختها حتى انتهى به المطاف على لائحة المطلوبين للعدالة، فـ تأسى بالنعامة واختار أن يدس رأسه في التراب لأطول فترة ممكنة محاولا بذلك الإختفاءَ عن الأنظار.

فما هي ألا أيام قليلة حتى قُبض عليه و أّدخِلَ السجنَ بتهمة تعاطي الممنوعاتِ وترويجها فكان ماكان من التفكيرِ والتأملِ والندم.. لفّه فراغ الزنازين وبرودها حتى صار كأنه جزء من حلقةٍ مفرغةٍ تدور دوراناً لا معنى له، وليس ثمةَ مخرج ولا إلى الخلاصِ من سبيل.

أكل التمنّي معه وشرِب حتى تفتت أظافره بين أسنانه من كثرةِ عضّه لأصابع الندم. ودار عقله بسرعةِ دورانِ أفكاره المشوّهةِ التي لا تنتهي، حتى أستأسر رأسه للصداعِ ومشتقاته فراح يخبط ناصيته بجدران الزنزانةِ  محتجّاً على كل شيءٍ ومردداً: “من اتكل على الله كفاه، ومن اتكل على نفسه أوكله الله لنفسه”.. سال من ناصيته دمُ العار والأسفِ والخسارةِ ثم غاب عن الوعي لفتره، فما إن أفاق حتى وجد نفسه في مكانٍ أبيض يشبهه حياته في ماقبل السقوط. وتساءل بداهةً من أنا وماهذا المكان؟
 
نعم، لقد جُنّ..

أضف تعليق