أسرِج خيلك

في بودكاست معنى للمتألق محمد الحاجي، تحدث مشكوراً عن الشعور بالندم عند الإنسان، تعريفه، أسبابه، وكيفية التعامل معه. ولسماع البودكاست اضغط على الرابط التالي:

ما يهمنا في هذا السياق هو التقسيمة الثلاثية للنفس البشرية والتي جاءت على الشكل التالي:

الذات الحقيقية: وهي شخصيتنا اليومية بـ مجموع مشاعرنا وأفكارنا وخبراتنا وقراراتنا، والتي عبّر عنها القرآن الكريم بـ “النفس الأمارة بالسوء”..

الذات الإجتماعية: وهي شخصيتنا التي ينبغي ويفترض أن نكون عليها بالنظر إلى القوانين التي تحكمنا والأعراف التي يجب أن نلتزم بها داخل نطاق المجتمع، ويمكن نعتها بـ “النفس اللوامة”..

الذات المثالية: فهي شخصيتنا التي نطمح أن نكونها يوماً ما.. وهي أجمل صورة نطمح لها ونتطلع إليها من أنفسنا، وهي عبارة عن مجموع الأهداف والطموحات التي نتطلع إليها، وقد وصفها القرآن الكريم بـ “النفس المطمئنة”..

وشخصية الفرد هي مزيج بين هذا الثلاثي، وهذا الثلاثي له علاقة كبيرة بالشعور بالندم عند الإنسان.. فالفجوة بين الذات الحقيقية والذات الاجتماعية ينتج عنها نوع من الندم، ومحاولة تختلف في جديتها من شخص لآخر بالتصحيح والندم على ما فات. وهي متعلقة بالأخطاء التي يقوم بها الإنسان إتجاه صديق أو فرد من العائلة أو شخص في الشارع أو أياً كان.. أخطاء غير مقبولة إجتماعياً ينتج عنها شعور بالندم.

والذي يعنينا بشكلٍ خاص في هذا المقال هو الفجوة بين الذات الحقيقية والذات المثالية، بين النفس الأمارة بالسوء والنفس المطمئنة. وهذه الفجوة هي منغص كبير في حياة كثير من الناس وينتج عنها ندم بارد، حزن، إحباط، أسى، شعور بالفراغ، شعور بالهامشية وعدم التأثير..

نحن غالباً ما نكون ضحايا لهذه الفجوة بين نحن الآن ونحن في المستقبل.. بين الشخصية اليومية والشخصية المثالية.. بين الأمر بالسوء، والطمأنينة.. كلنا يحب أن يكون ذات تأثير إجتماعي، وحضوة عند الآخرين، وكلنا يحب أن تكون علاقته بالله أفضل، وهذا طريق لا حدود لها، وطموح يعيش المؤمن يلاحقه طوال حياته، وهو في الواقع يتخبط في وحول الشهوات، وينزلق خلفها بين الحين والآخر بحكم نفسه الأمارة بالسوء، ثم يندم، ويطمح بـ صورة أجمل عن نفسه، ونفس مطمئنة.. وهلما جرى.. دائرة لا نهاية لها..

لا مشكلة لحد الآن، فالإنسان خطّاء، وخير الخطّائين التوابين كما جاء في الأثر، والإنسان عبارة عن صراع كبير بين نفس أمارة بالسوء وهذا واقع الحال، ونفس لوامة تفرض عليه نوع من القيود وتحدد له الصواب والخطأ في كثير من أمور حياته، ونفس مطمئنة يسعى إليها ويطمع بالمزيد منها ما دامت روحه في جسده..

الغير جيد أن الإنسان أحياناً يكون حبيس النظرة الاجتماعية وقد تثنيه هذه النظرة عن ملاحقة الطمأنينة التي تنشدها نفسه المثالية، فعندما يحقق رضى إجتماعي معين عن شخصيته، يركن لهذا الرضى ويرضى به، ومن هنا يتراجع ثم يسقط مره أخرى فريسة للندم الذي تفرضه عليه نفسه التواقة للمثالية والطمأنينة..

قد يكون المجتمع راضٍ عن إنسان معين بسبب تفوقه الدراسي أو الوظيفي، مكانته الاجتماعية، والعائلة التي ينتمي إليها، تصرفاته العامة، ومحافظته على الأعراف والتقاليد بدرجة تجعل منه إنساناً ناجحاً في نظر المجتمع، وقد تكون هذه النظرة الاجتماعية واضحة لهذا الإنسان، فيعجب بها، ويطمئن لها، وتحقق له طمأنينة مؤقته سرعان ما تتلاشى عند أول محطة حقيقية يستريح إليها ويراقب نفسه.. كل مارضي عنه المجتمع، قد لا يكون هو الشيء الذي يبعث الطمأنينة في نفسه، قد لا تكون الوظيفة أو المنصب هما الطموح الحقيقي والهدف الكبير الذي ينشده.. إنما هو حقق ذلك لأنه كان يستطيع ولأن الفرصة كانت متاحة ليس لأنه جداً مهووس بهذا العمل أو هذه القضية.

يقول جوستاين غاردر في كتابه عالم صوفي

“من المستحيل أن يكون الإنسان سعيداً إذا تصرّف على عكس قناعاته”..

لا أجد أدق من العبارة السابقة في وصف الفجوة بين الذات الحقيقية والذات المثالية.. فبالإضافة إلى الندم والإحباط والأسى والشعور بالفراغ، فهنالك أيضا الشعور بعدم السعادة.. وهذا بحد ذاته تهديد كبير لـ النفس البشرية التي طالما بحثت وفتّشت عن السعادة وبذلت في سبيلها كل شيء ممكن.. فالقناعات المقصودة في المقولة السابقة هي الأحلام والطموحات والإيمانيات والمعتقدات الكبيرة التي يؤمن بها الإنسان ولايجادل فيها، ويحاول جاهداً تحقيقها والعيش ضمن الدائرة التي رسمها لنفسه.. وليس بالضرورة أن ينجح في ذلك، ولكنه كلما كان داخل نطاق الدائرة هذه كان أكثر سعادة.. يتلاشى الندم ويضمحل عندما نتصرف على حسب قناعاتنا وإيمانياتنا ومعتقداتنا الشخصية.. وهذا مايجعل الإنسان يعيش في حالة إطمئنان كبير عندما يحدد قناعاته ثم يؤمن بها، ثم يعمل بناءً عليها..

الأمر بالسوء وعمله بـ جهالة ليس حِكراً على إرتكاب الذنوب، بل قد يكون الكسل في إنجاز الأشياء، التقصير في حق النفس من القراءة والتعلم، إضاعة الوقت فيما لا يفيد، إدمان الأشياء الغير نافعة والتعلق بها، الإسراف في البدن وعدم المحافظة عليه، التقصير في حق الأهل والأبناء والأصحاب، كل هذه الأشياء من الأمر بالسوء الذي قد تأمر به النفس وتحبه، وتركن إليه..

أما الطمأنينة فتكون في إنجاز الأشياء، التعلم المستمر، تجنب الذنوب والندم عليها، الإستفادة من الوقت، إختيار أعمال نافعة، المحافظة على البدن، المحافظة على العائلة والتقرب منها والأصحاب.. كل هذا مما يبعث الطمأنينة.

بالإضافة إلى المشروع الشخصي، الحلم الشخصي، الهدف الشخصي الذي يختلف من إنسان لآخر.. أن أتألق، أن أتقرب من الله، أن أقوم الليل، أن أكتب، أن أقرأ، أن أكون ذا تأثير إجتماعي، أن أضحي من أجل هدف سامي.. إلى آخره من الأحلام والأهداف والتوقعات التي تمليها علينا أنفسنا وكلن بحسب نفسه وهمّتها..

ونختم بـ قول المتنبي:

وإذا كانت النفوسُ كبارا.. تعبت في مرادها الأجساد

أضف تعليق