مِنهُ وإليه

أفر منه فراري من الموت، وأقصد الشهوات والدنيا وزينتها.. “الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا“..

وأزهد في الباقيات الصالحات.. التي هي خيرٌ وأبقى..

وهذا الإنسان هو هو في شرق العالم وغربه.. إلا أن البعض يعرف إلى أين يفر، والبعض يفر بلا وجهةٍ، حتى يقع في حبائل الشيطان فتكون عواقب فراره أن “اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّه“..

وهذا الإنسان يعرف الطريق “وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ“، ويسلك غيره “فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ“..

ويحب الخيرات “وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ“، ويعمل السيئات “يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ“..

**

وأنا أجد لفظ الجلالة في كل شيء حسن وفوق كل شيء جميل، ولكن تنسيني آدميتي أنه “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ.. ۚ

والشهيد على أفعالي وأقوالي وحديث نفسي الذي أكتمه عن كل أذن “وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُه” وأخفيه عن كل قريب “وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ“..

وأفر منه خجلاً في شاشة الجوال، وفي أصوات المنادين، وعلى فلتات ألسنتهم..

تظهر لي أدعية الرجاء، على الواتساب، وفي تويتر، وتتصور لي في برامج التصوير الكثيرة.. من انستقرام، وسناب شات.. وغيرها.. ولكني أهرب “أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ“..

أفر منه، أفر من الكلمة، والصورة، والصوت.. ولكن إلى أين.. “وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ“..

تختلق نفسي الأعذار وتسلك طرقاً كثيرة، غاضةً الطرف عن فكرة الرجوع إليه.. أختار طريقاً آخر جديداً.. أكرر المحاولة بعيداً عنه، وأنسى أو أتناسى قوله “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا“..

أتناسى هذه الحتمية أول الطريق حتى تقودني كل الطرق إليها.. وينتهي بي المطاف مستشعراً إياها، ومحسّاً بها وهي تلفني من كل إتجاه.. أضيق حتى تكاد الضيقة تحبس الهواء عني، وتكاد تنقطع رقبتي من شدتها..

جربت الطرق كلها، جربت الهروب الكبير إلى تلك المساحات التي توفرها الدنيا، ويوفرها الناس.. “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا“.. ولكني سيّارٌ بلا نظر حقيقي، بلا بصرٍ وبصيرةٍ سليمتين..

فما إن عنه أبتعد حتى يسيئ ظني بنفسي وبالناس والأشياء، وتسقط عيني على سيئ الأشياء، وتلتقط أذني كل قذارات العالم، وتتلوث أفكاري، ويلتوي لساني، وتنكرني نفسي وينكرني من حولي، وأصبح شيئاً آخر، شيئاً سيئاً آخر لا يشبهني وأنا في محرابه..

أفر مجددا وحتى السماء كلما نظرت إليها يصير صدري “كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ“.. كأني أختنق وآياته تناديني “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ“.. لا مفر.. لاطريق.. لا وسيلة.. ويصدق علي حينها قوله “وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ“..

ثم بعد كل هذا الجهد المضني.. أفر إليه..

**

أسبّحه وأنزهه عن كل شيء، عن خطرات النفس، وأمرها بالسوء “إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ“.. وعن وعد الشيطان البائس “الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ“.. وأستقبل وعده هو “وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا“..

تأتيني رحمته متشكلةً على شكل صورة، أو متحققةً أمام عيني في موقف، أو تنقلها إلى قلبي وأذني حنجرة إمامٍ يصلي وتطوقني من كل إتجاه.. تلمس حاجتي، وتنهمس لقلبي وكأنه يسمعها لأول مررة.

فـ حيناً بـ “فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا“..

وأخرى بـ “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا“..

ومرة بـ “وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا“..

ومرة بـ “أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ“..

أما سورة الضحى فكأني أنا المعني بها.. فلقد نشأت يتيماً، وتخبّطت في هذه الدنيا بين صفتين دقيقتين تدور السورة حولهما.. ضالاً وعائلاً..

وهو كان ولايزال دائما لي المأوى، والهدى، والغنى..

فعندما تحبسني الدنيا بين أسوارٍ لا أراها، ويضيق بي الكون الفسيح، وتضيق نفسي المذنبة حتى أحسبني في حفرة قبر، أفر إليه..

استلم سجادتي.. وأصلي وأحمد.. “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ“.. وأتبعها بـ “الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ“.. فما أن أحمده على رحمته وأثني عليه بها، حتى تنهمر الدموع.. ويغمرني الخشوع، وتنفرج أسارير نفسي، وتتخلص من أسوارها، ويصبح الفضاءُ ملكاً لي.. والأرضُ كلها مسجدأ لي.. “وَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ”  

وتقترب السماء مني حتى أكاد ألمسها، وتنبسط الأرض لي حتى كأن لا جبال فيها.. وأمشي إليه وهو إليّ يهرول..

**

التوبة أول مامنّ به الله على آدم بعد أن نفخ فيه الروح، وعلّمه الأشياء.. “فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ“..

فكان مما علّمه، كلمات التوبة..

توبة سريعة عاجلة جاءته من فوق سبع سماوات.. بعد أن تلفظ بكلمات.. وحقّ لآدم أن لا يذنب بعدها، وكان بداهةً أن يذنب بنوه، وكان رحمةً من الله أن ترك لهم باب التوبةِ مفتوحاً وهو التواب الرحيم..

اللهم هذ الفرار ولاملجى ولا منجا منك إلا إليك.. فكل شيء أخافه قد فررت منه، وأنت لما خفتك، ورجوتك، وأحببتك.. فررت إليك..

 “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ“..

اللهم فض شراكة الشركاء المتشاكسون في داخلي، واجعلني ذلك الرجل السَلَم، ومن أولئك الذين تقول لهم “ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ“..

..

أضف تعليق