
في قرية صغيرة نشأت واشتد عودي ومن ثم تقاذفتني الأيام من على ساحلها ورمت بي بين الأماكن والأشخاص والظروف المتعددة.. واليوم أعود مجبراً لا مختاراً إلى هذه القرية لأستعيد ذكريات الأمس وماقبله.. ذكريات الملاعب الرملية والسمرات الليلية المتواضعة والخبرات والعلاقات الكثيرة التي صنعتني، والتي جعلت مني أنا أنا وجعلت منك أنت أنت.. فليس الإنسان إلا مجموعة تجارب وذكريات شكلت وعيه وطريقة تفكيره، ومنها أصبح مستقلاً وقادراً على الإختيار.. فمن التجارب والذكريات الجيدة أحب أناساً وأماكناً وأشياءً، ومن التجارب والذكريات السيئة كرِه أناساً وأماكناً وأشياء.
فـ من تجربة لعب الكرة حافياً أصبحت علاقتي مع الرمل جيدة فلا أتأفف من تسربه إلى البيت وتطفّله على أسطح الأشياء.. ومن سمراتنا حول الأرصفة صغاراً أصبحت علاقتي بها يسودها الإحترام الذي أعطيه لكل الأرصفة.. فلا أتهكم عليها ولا أرمي فوقها نفاياتي، وأقدر لها ذلك المتكأ الذي كانت توفره لنا عندما كانت الأماكن شحيحة، والبيوت ترفض استقبالنا لصغر سننا وهواننا على الناس..
ومن تجربة الفازلين الذي كانت تغدقه أمي على أطرافي كرِهت مستحضرات التجميل بلوشناتها وكريماتها المختلفة حتى لو كانت مصنّعة خصيصاً للرجال.. وأصبحتُ من الملمس الناعم أتوجس، وأشكك في مدى رجولتي، وكأن الرجل خلق ليكون شيئا يشبه الجماد، خشن الملمس ومتبلّد الأحساس..
نشأت قاسياً أشبه الأرصفة، وأشهباً أشبه التراب الذي خلقتُ منه، وأطرافي يابسة، وأفكاري جامدة، والعالم كله محصور في قلبي وعيني بـ هذه القرية وهؤلاء البشر.. فلما دارت رحى الدنيا كنت فيها سهل الكسر لإنعدام مرونتي، وشدة صلابتي.. فطحنتني الأيام، وعجنتني الظروف، وصبت علي الدنيا ماء تجربتها وكوتني الغربة بـ نارها، واليوم ها أنا ذا أقف على عتبة الباب نفسه وأجمع في عدسة عيني منظراً قديماً بحلةٍ جديدة ومخيفة.. الملعب أصبح ساحةً خاوية، والمسجد مغلّقة ٌأبوابه، وحتى الجمعية بأبوابها الكثير أغلقتها جميعها وهي بذلك كأنها تعتذر منا متوجسةً من المرض، وخائفة من أن تصيبنا به.. أما الناس فليس يجمعهم جامع، ولايحيط بهم مجلس، وينفرون من بعضهم البعض نفور الشاة من الذئب، وخف ركضهم، وقل ظهورهم، ولا ملامة عليهم وهذا العدو يتربص بهم في أيدي الآخرين ونسمة الهواء وعلى أسطح الأشياء..
وهذه في خاطري هي سيئة الأزمة الوحيدة التي واجهت وهي أنها ضربت بيني وبين العالم بـ بابٍ يشبه أبواب الزنازين في أعين السجناء وفي ضمائرهم، وحجبتني عن العالم وحجبت العالم عني إلا من أخبارٍ تتناقلها الألسن، وصورٍ تجري بها شاشات الهواتف..
ولهذه السيئة وجهٌ آخر حَسن لا يغفله إلا مُنحازٌ أو متعصّب.. وذلك أن الأزمة التي قطعتني عن العالم قد وصلتني بنفسي وبمن حولي وصلاً وطد العلاقات وبعث فيها الروح من جديد.. فكأن هذه الأزمة قد صفعتني بـ حنانها على الخدين، وعاتبتني بصوت المحب الغاضب قائلةً كفاك إنشغالاً، وكفاك ركضاً كفاااك..
هزت كتفي وصرخت في وجهي أن أنظر في وجوه أصحابك القدامى، دقق في ملامح أخوانك وتفاعل معهم.. أعطِ مجلس أمك مزيد إهتمام.. راقب تسبيحها، ودوران أصابعها، وهمسات قلبها وفلتات لسانها.. راقب ركضك بعيداً عن نفسك، منذ متى وأنت تركض تطلب صعباً أو تنشد تصفيقاً.. وهي بهذا التنبيه قد أيقضتني من غيبوبة العالم الحديث الذي لايعنيه من الحياةِ إلا المال والأعمال وضخامة الإنجاز.. شبح الإنجاز الذي تقوده رأسمالية هذا العالم أوهنت علاقتي بنفسي وبالمحيط.. فلا عدت أعرفني جيداً لهوسي بتلميع شخصيتي التي يعرفها الناس، ومكانتي التي أعطانيها الناس، ووظيفتي التي جاد بها علي نفرٌ من الناس..
وأنكرتني العائلة لشح المجالسة وضيق الوقت الذي رحت أبذله على كل شيء وأستكثره عليهم..
وتوجّس مني الأصدقاء لقلة اللقاء ولكثرة مافيه أشكو إليهم ويشكون إلي الوقت والظروف والناس..
**
ثم جاءت الأزمة وأعادت معها ترتيب الأشياء.. النفس، العائلة، الأصدقاء، ثم المال والعمل والإنجاز.. توقفت عجلة الإنجاز، وشحت الأموال وجمدت الأعمال بشتى أنواعها.. وخيم الفراغ على وقتي، وحبستني التوجيهات الحكومية في بيتي وبين أخوتي، وتخلى عني كل شيء إلا الأهل وبعض الأصحاب.. اجتمعنا على مائدة واحدة وتسامرنا وتبادلنا المواقف المضحكة وذكرنا بعضنا البعض بأيام الطفولة، وأيام العيش الشحيح والموارد القليلة.. فمن هذه العائلة تفرعت عائلات كثير واليوم يجمعهم جميعاً بيتاً شعبياً واحداً..
ننام ونصحى ونصلي ونعيش تحت سقفٍ واحد، ونأكل من صحنٍ واحد، وليس يشغلنا إلا العافية من هذا الوباء.. لا المال ولا الأعمال..
حينها أدركت أن العافية رأس النِعم، وأن العائلة أساس الهرم، وأنّي وأنت كنا نطلب السعادة في غير محلها، وننشد الحب عند غير أهله، ويغلب على عقولنا وقلوبنا الإنشغال بالإنجاز المادي الملموس، ويغيب دائما عنها الإنجازات العظيمة في محافل النفس والمجتمع والتي هي من أهم المفاتيح المؤدية إما إلى جنتي الدنيا والآخرة وإما إلى شقاء الإثنين معاً..

كلمات جميلة …
القرية بداية الحياة ..
شدةالعود..وصلابة الظهر..
تحفة وتنوع التجارب ..
إعجابLiked by 1 person