
الذي يعنينا من هذا المقال هو تسليط الضوء على اللغط الحاصل حول الحياة الأدبية الحالية والتي عنيت بـ مجموع ماكتبته الأمة في شتى مجالاتها شاملةَ الدين والأدب والتاريخ والأخلاق والشعر واللغة. أي حول ثقافة الأمة إن صح التعبير. فبعد التصادم القوي الذي حصل بيننا وبين الثقافة الأوروبية منذ الحروب الصليبية التي بدأت في القرن العاشر الميلادي، جاء الإستشراق مدلّسا وممتطيا خيل التجديد بعدها بستة قرون وذلك بعد عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي، وزاعماً أنه يبين الطريقة والمنهج للخروج من رجعية الدين ومواكبة العالم الأول ومنافسته على حد زعمهم. وهو بذلك مريداً ضرب ثقافتنا في صميمها حتى نتخذه المنظار الذي من خلاله نرى ونفكر ونتقدم..
في الحقيقة هذا الإستشراق عبارة عن “تحيُّزٍ خفيّ ومستمر محوره تفوق الحضارة الأوروبية ضد الشعوب العربية الإسلامية وثقافتها”. وقد كان ولايزال ينبوعاً فاسداً ينهل منه دعاة الحداثة والتجديد من مستشرقين وعرب، وهو مركز الأفكار الغريبة التي تحاول إختراق تماسك وحدتنا التي شد ديننا ولغتنا وثقافتنا بعضها إلى بعض.. فلو أنك قرأت رسالة في الطريق إلى ثقافتنا لـ شيخ العربية محمود شاكر لأدركت شراسة الهجوم الذي يُشن على هذه اللغة وهذه الثقافة.. ولأدركت حجم التضليل الذي نعيش فيه، والحيل التي انطلت ولازالت تنطلي عليك وعلى أجيالٍ مضت ولسوف تنطلي على أجيالٍ ستأتي إذا لم نحرك ساكناً..
ولنبين جزءً من التضليل الحاصل لابد من إلقاء الضوء على أدوات التجديد التي لابد من توافرها فيمن يزعم التجديد في أي لسان وفي أي ثقافة. وهي أن على الدارس لأي منهج لابد له أن يتناول المادة المدروسة فيجمعها جمعا يسيطر فيه على أطرافها ويفحصها فحصاً دقيقاً وينقحها تنقيحاً وافيا.. ومن ثم يجب أن تتم معالجة التطبيق بتناول المادة المجموعة وتمحيص زيفها من حقيقها وأن يُحذر كل الحذر من الخطأ والتسرع والهوى.. حتى يتسنى لدارسها أن يحيط بها إحاطةَ تجعل منه حجة ثقة في ذلك الباب.
ثم لابد للنازل إلى ميدان التجديد أن يعرف اللغة معرفة الذي نشأ فيها صغيراً، ويفهم الثقافة فهم الذي ارتضع منها يافعاً.. ثم هو لابد له من سيطرة كاملة على أهوائه التي هي سبب دراسته وموضع بحثه.
والمستشرق هو شخص غربي اللغة والثقافة والأهواء (أوروبي أو أمريكي)، تعلّم اللغة العربية وشيئاً من العلوم الشرعية ومن ثم اتخذ من ثقافة الإسلام وعلومه ومجموع مفاهيمه مادةً للدراسة والتحقيق. فهو بذلك دخيل على اللغة ودخيل على الثقافة، ويغلب عليه فساد الأهواء.
من جهة اللغة فكل مستشرق بتعليمه المتأخر الذي غالباً ماتلقاه عن مستشرق آخر أكبر منه سناً بإمكانيات لغوية محدودة، من المتوقع أن يكون قاصراً عن فهم إعجاز القرآن ولغته وأسراره وحديث رسول الله صل الله عليه وسلم، والشعر الجاهلي وكلام علماء اللغة والشعر وعلوم الإنسان بفلسفتها وعلوم اجتماعها وتفريعاتها الكبيرة والصغيرة. فكيف له أن يفهم تعقيدات النحويين من كوفيين وبصريين التي تغيب عن كثير من الناطقيين الأصليين بهذه اللغة فضلا عن متعلميها؟ وكيف يستطيع الإحاطة بمصطلحاتها المتشعبة، وشواذها وأعرافها وإختلافاتها المتزايدة.. فهو إن كان قاصراً عن فهم اللغة وأسرارها فكيف يكون مؤهلاً لقيادة عملية التجديد؟.. فهذه المادة التي ينشد تجديدها هي لغة في الأساس، والإحاطة بها ليست ترف وإنما أساس من أساسيات العمل بالمنهج..
ومن طريق الثقافة فهي متنوعة وأشبه بالسر الغامض من أسرار البشر الذي يؤمنون به عن طريق القلب والعقل ومن ثم يعملون به حتى يجري من أحدهم مجرى الدم ثم تكون شيئا لايكادون يحسونه ثم هم ينتمون إليه بعقولهم وقلوبهم وخيالهم. هي كما يمكن أن نصفها ” كل ماهو صادر عن الانسان إبانة عن نفسه او مجتمعه”. وبهذا هي إذن مستعصية على من لم يتشربها منذ نعومة أظفاره وينشأ ويشبّ عليها حتى تكون عينه التي بها يرى وأذنه التي بها يسمع وعقله الذي به يفكر ومعقتده الذي عليه يعوّل.
وهذا المستشرق حامل لواء التجديد دخيلٌ على ثقافتنا لم يسبر أغوارها ولا يعرف منها إلا القشور، ولاتنزل منه منزل الإستحسان لأنه قد ألِف غيرها ونشأ وترعرع في حضن ثقافة تختلف إختلافاً جذرياً عما هو مشمرٌ ذراعيه لتجديده وتصحيح عيوبه. وهو مدفوعٌ بالأهواء الفاسدة التي تختلج فيه وتدفعه للتشويه بالزيف كل مالم يهتدِ إليه عقله ومالم يؤمن به قلبه.
وباب الأهواء هذا واسع، فلا يكاد يشك عاقل بـ فساد أهواء المستشرقين الذين اندسوا في ثقافتنا وانبروا لتشويهها عند أقرانهم ومن ثم التدليس علينا بمناهج غير علمية مدعيين بذلك تجديد التراث، وتصحيح المفاهيم.
ونختم بمختصرٍ مفيد عن محمود شاكر عليه رحمة الله: “التجديد لايمكن أن يكون مفهوما ذا معنى، إلا أن ينشأ نشأة طبيعية من داخل ثقافة متكاملة متماسكة حية في أنفس أهلها، ثم لا يأتي التجديد إلا من متكمن النشأة في ثقافته، متمكن في لسانه ولغته، متذوق لما هو ناشئ فيه من آداب وثقافه وفنون وتاريخ مغروس في تاريخها وفي عقائدها، في زمان قوتها وضعفها ومع التحدر إليه من خيرها وشرها، محسا بذلك احساسا خاليا من الشوائب.. ثم لايكون التجديد الا من حوار ذكي بين التفاصيل الكثيرة المتشابكة المعقدة التي تنطوي عليها هذه الثقافة. وبين رؤية جديدة نافذة حين يلوح للمجدد طريق آخر يمكن سلوكه ومن خلاله يستطيع أن يقطع تشابكا من ناحيه، ليصله من ناحية أخرى أكثر استقامة ووضوحاً، وأن يحل عقدة من طرف ليربطها من طرف آخر ربطا يزيدها قوة ومتانة وسلاسة”.

One Reply to “”