
ملاحظة: اقرأ المقال بـ لسان حالك!
أفتح عيني على بياض السقف الباهت كل صباح، فأبحث لها عن ألوان.. أُمسك بعنق الهاتف وأعصره ليستخرج لي من أخبار البارحة، ورسائل الأصدقاء، وجديد الساحة مايبعث في يومي ألوان مختلفة، ومشاعر جديدة..
رتابة الصباح تحتم على الهروب إلى الواقع الإفتراضي، وأن أبتسم لإبتسامة هذا، وأمتعض لهذا الخبر، وأحسد فلان، وأدعو لفلان..
لا يكاد عقلي يستيقظ من سبات البارحة حتى ألقي به وبمشاعري داخل الشاشة، واتركهما يهرولان بين تويتر وسناب شات وواتساب والقائمة تطول.. خوفا من أن يفوتني فائت الماجريات.. “ماذا جرى”..
ألهث خلف الخبر، فما أن أقبض عليه حتى أزهد به، واتصفحه بسرعه ثم أنتقل بسرعة اللمس إلى خبر جديد، ومقالٍ جديد، وصورةٍ جديدة.. أدبل الضغطات معبراً عن إعجابي بينما أجامل بنقرتين صديق عزيز، أو مشهور قريب إلى قلبي..
أكرر العملية بشكل لاواعي، ونادراً ما أتعمق فيما أتصفح.. وإنما أمر مرورا خفيفاً على كل شيء، وانتقي بعض الخيارات أفضّلها في مفضلتي أو أصور الشاشة حتى أعود إليها لاحقاً، ولا أعود.. حتى وإن عدت، أزهد بها وابدأ بعملية نقل هذه المحفوظات إلى سلة المهملات، تمهيداً لإستبدالها بأشياء جديدة..
أشعر بالملل فأرفع رأسي لأتفقد العالم الباهت الذي للتو هربت منه.. لاجديد.. المناظر لم تتغير، والناس جميعهم مطأطؤا رؤسهم ومشغولين بالمساحة الإفتراضية التي صنعوها لأنفسهم..
لايتغير العالم بسرعة كما هو الحال داخل الشاشة.. لاتبدو المناظر بهذا الجمال في الواقع كما هي داخل الشاشة.. ولا يبدو الآخرين أكثر سروراً كما هم داخل الشاشة.. كل شيء أقل مرحاً، وجمالاً على الطبيعة منه داخل الشاشة..
حتى هذا الموظف العابس الذي يجلس بجانبي، يعلق على صورهِ في سناب شات بكلام جميل لايشبهه..
وتلك الفتاة التي تفتقد لأقل مقومات الجمال، تُظهر يدها وأصابعها المطلية باللون الأحمر الجذاب ممسكةُ بكوب قهوة مليء بالثلج على الشاشة وكأنها جميلة الجميلات..
هنالك تناقض كبير بين الواقع والشاشة.. وهنالك أيضاً إختلاف كبير بين شخصياتي في البرامج التي استخدمها أيضاً.. فليس من الحكمة أن أسمح بتكرار نفسي في أكثر من برنامج وإلا لماذا أستخدم شيئين لنفس الغرض؟
أنا أملك هوس كبير حول التعددية، أريد أن أكوّن أكثر من شخصية، لذلك أكرر نفسي بأشكال مختلفة في حقول مختلفة.
في السناب أظهر أكثر مرحا، وفي انستقرام أكثر رزانة، وفي الواتساب أكثر حلماً وأهذب نفساً.. ففي كل برنامج مساحة جديدة أحاول أن أملأها بما يمليه علي هاتفي وتقرّه نفسي..
ومن المحزن أن هذا الواقع الإفتراضي الذي أتيحت لي فيه الفرصة لأن أظهر كما يجب أو كما أحب أو كما أدعي.. أصبحت أتلون فيه تلوّن الحرباء، وأظهر مالا أبطن.. وأخفي تراكماتٍ من الحزن وأظهر لحظاتٍ من الفرح..
وهذه أعظم سيئات استخدام مواقع التواصل الإجتماعي التي واجهت..
**
أما الأخرى فهي على نفسي أثقل من الجبل ..
فمثلاً أنا شخصياً أكتب عن الإيجابية، وأعنون صفحاتي على الإنترنت بها، وأدعو إليها، وأتابع المدعين الإتصاف بها، وأرتوت، وأعبر عن إعجابي بما يقولون أو يفعلون..
وفي الواقع أنا أقلق كثيراً عندما يحدث حادث..
حتى أفكاري دائما ماتذهب إلى اليسار.. حيث القلق، والتشاؤم، وتوقع الأسوء.. حتى وأنا في صلاتي أتخيل فشل ما ينتظرني، وذنبٍ ما لم يغفر لي.. أنا أروج لبضاعةٍ لا أملكها، ولا أعرف كنهها.. أنا أتناقض وربما حسدني حاسد على خصلةٍ أدعيها ولا أملكها..
الإيجابية أؤمن بها داخل الشاشة فقط.. وغيري من الناس الكثير الذي يظهرون السعادة، أو النجاح، او ماشابه وهم ليسوا كذلك.
وبسبب هذه الترسانة الإجتماعية التي رميت نفسي في معمعتها وهذا النفاق الإجتماعي العام الذي أنا جزء منه، أصبح الحسد هو الشعور المهيمن وأصبحت هذه المواقع أجهزة حسد عملاقة كلنا يغذيها عن طريق عقد المقارنات بين حياتنا و الآخرين.
أنا أحسد كل أولئك الذين يبتسمون على الشاشة طالما كنت حزيناً وقتها، وكل أولئك المستمتعين بأوقاتهم على شواطئ البحار في مناطق بعيدة وأنا مقيّد بقيود العمل ورهين المادة، وكل من يملك مالا أملك، وكل من يقدر على مالا أقدر، وكل من حقق مالم أحقق..
أستغفر الله لنفسي أحيانا وأسدد وأقارب، ثم تجتاحني موجة مقارنة جديدة فأظلم بها نفسي أو فلان من الناس، وأنساق من حيث لا أشعر في عملية حسد جديدة.. تلتهم يومي، وتصيبني بالحنق، وربما الحزن الشديد..
إن إبليس لو تسنّى له أن يكون منصةً على الإنترنت لما كان إلا سناب شات أو فيسبوك أو غيرها من المواقع التي تغذي الحسد وتنميه، وتدعو الناس إليه، ويدعو بعضنا البعض إلى موائدها..
كلنا يحسد الآخرين من خلال الشاشة، ويشارك معهم أفضل أوقاته حتى يبادلوه الشعور نفسه، ويضطرهم لينافقوا إتجاهه بإظهار العكس من خلال التعبير عن مشارعهم بالإعجاب والتعليق، وهذا واضح جداً للجميع ويحدث بشكل متكرر وفضيع..
إبليس أبتُلي بأن يُكرّم عليه مخلوق، فلم يقبل بهذا حسداً من عند نفسه، وفشل في الإبتلاء وظهر على حقيقته الشيطانية، ونحن بملءِ إرادتنا نضع أنفسنا في كل مرة ننظر فيها إلى الشاشة تحت ضغط إبتلاء مشابه، وربما فشلنا كثيراً أمامه، ونحن نعلم يقيناً من قصة إبليس أنه ليس من الحكمة أن تعقد المقارنات بينك وبين الآخرين باستمرار وتعتقد أنك ستنجو من الحسد، والحَزن، وربما السقوط في وحل من الرذائل لايعلمه إلا الله..

هذا العالم هو عالم “افتراضي” من خلاله نصل إلى حل ولا نجعل أنفسنا جزء منه ..
هذا هو “الواجب” ان لا نجعل أنفسنا جزء منه والا مافرقنا عن هولاء الذين نحسدهم على مانشاهده ونعتبره واقعهم ولو تعمقنا فيهم قد لا يكون هو واقعهم ايضاً قد يكون مسرحية هزلية أجبرتهم عليها الظروف حتى تقمصوا شخصيات افتراضية لا تمت لهم بصله ..
علينا ياعزيزي ان نكوّن لأنفسنا شخصية مستقلة بعيدة عن العوالم الافتراضية ..
شخصية تجعل من يتجولون في العالم الافتراضي يلتفتون لها من ناحية واقعية معتدله ..
نحن من يحدد نوعية العالم الذي نريد ان نعيشه والافضل ان نسير على خط واحد مستقيم ومن الطبيعي ان تكون بداية هذا الخط مليئة بالمنعطفات الخطيرة التي تجعلنا ننظر هذه النظرة لهذا العالم ولكن لا بد ان نتجاوز المنعطفات ليستقيم الطريق الذي ننشد الاستمرا علية حتى النهاية.
إعجابإعجاب